عن أهمية امتلاك صوتٍ عالمي

ضع في بالك وبينما تعمل المشاريع لدعم الويب العربي ونفع الأمة الإسلامية والمساهمة بما لديك من علمٍ أنه من الضروري كذلك للأمة أن يبقى لديها صوت عالمي (بالإنجليزية وربما غيرها من اللغات بدرجة أقل) في مختلف المجالات كذلك. سواء كان الكلام عن السياسة أو التقنية أو علوم الاجتماع أو الهندسات وغيرها من العلوم، من المهم ألا تبقى أمتنا محصورة بجلّ قوتها ومخرجاتها باللغة العربية فحسب.

أحداث غزة الأخيرة خير شاهد على ذلك، ولولا مساهمة آلاف الحسابات والقنوات الأجنبية بنشر القضية لربما كان الوضع ليكون أسوء مما هو عليه. هناك خذلان كبير غير مسبوق في التاريخ طبعًا وما قُدِّم لم يكن شيئًا يذكر لأهل غزة المكلومة، لكنه مع ذلك تسبب في حراكٍ كبيرٍ على الساحة الأجنبية مثل حراك طلبة الجامعات الأمريكية، وكشف تمويل السياسيين من منظمة آيباك الصهيونية، وجعل أوراق المغضوب عليهم تتحرّك في أصقاع الدنيا وتنكشف عنها أوراق التوت، بل لربما لتكون غزة سبب خسارة بايدن للانتخابات. ولهذا تداعيات اجتماعية كبيرة على المستقبل البعيد حتى بين ملل الكفر نفسها.

مبادرة Tech for Palestine مثلًا يقوم عليها شخص إيطالي غير مسلم، ومجموعة كبيرة من النشطاء الأجانب الذين ينسقون العمل بينهم على موقع Discord. هذه المبادرة لوحدها مسؤولة عن عشرات المشاريع الإعلامية والتقنية الأخرى الضاربة لمصالح الاحتلال في كل مكان.

لكن الأمر لا ينحصر في السياسة، بل حتى في الأمور التقنية مثلًا وغيرها فنحنُ بحاجة إلى ذلك.

عندما أنشر على FOSS Post مقالةً عن ضرورة التخلي عن نظام مايكروسوفت ويندوز والانتقال إلى البرمجيات مفتوحة المصدر، ثم يقرأ هذه المقالة آلاف الناس وتترجم إلى العديد من اللغات منها اليابانية، وتتصدّر المواقع النقاشية الأجنبية مثل هاكرنيوز وريديت، فإنني هنا أسدد ضربة ملموسة لشركة أجنبية كبرى بأدنى جهد. حتى لو استمع إليّ بضع نفرٍ من الناس، فهذا تأثيرٌ ملموس ويتوالد ويتضاعف مع مرور الزمن فكل واحدٍ منهم سينقل الفكرة لغيره.

هذه الشركات التي لم تتوانى عن دعم الاحتلال وفتح المراكز التقنية والبحثية فيه، أقل القليل الذي نفعله هو أن نضرب مصالحها عبر هذه الخطوات.

ولتفعل ذلك فلا بد أن يكون لديك صوت، مهم كان نوع هذا الصوت: موقع إنترنت، حساب تواصل اجتماعي مشهور عليه آلاف الناس، قناة يوتيوب يتابعها المئات، حساب لينكدإن لديك فيه الكثير من التواصلات… أي شيء يمكنك من خلاله التواصل مع جمهور هؤلاء الأعداء ونشر الرسائل التي تريد نشرها دون أن تخبرهم مباشرةً بذلك.

لا يعرف الكثير من الناس أن بعض الحسابات المشهورة على تويتر مثلًا يسيطر عليها هنود، ويحاولون بين الحينة والأخرى نشر أخبارٍ إيجابية عن بلدهم وجعل هؤلاء المتابعين يهتمون بها وبسياساتهم. هذه الحسابات من بينها مثلًا:

تنشر هذه الحسابات معلوماتٍ عامة حاليًا ولا تتبع خط نشر معيّن (وإن كانت تنسخ المنشورات بشكلٍ واضح من بعضها البعض)… إلا أن اللحظة المناسبة لاستعمالها من أي مؤثّر خارجي سيكون وقت الحروب والمشاكل السياسية، فستجد وقها فجأة أن الصوت الهندي عالٍ وفي كل مكان لامتلاكهم حساباتٍ مشهورة كهذه.

في مجالي وحده المرتبط بنظام لينكس والبرمجيات مفتوحة المصدر، أكثر من 50% من المنافسين والمواقع الأخرى هي لأشخاص هنود. لديهم شبكات من المواقع وليس موقع واحد فقط لكلٍ منهم، ويستعملونها لدعم بعضهم البعض والتصدّر على نتائج البحث مثلًا.

هذه قنبلة موقوتة تكبر شيئًا فشيئًا مثلًا، ولا أحد يعرف عنها.

وهذا وأنا لم أتطرق إلى تغلغلهم في مراكز صناعة القرار الغربية، ووسائل الإعلام، والمدونات ودور النشر، وغير ذلك.

فهذه دعوةٌ للقادرين على افتتاح المشاريع التقنية، وأصحاب الأعمال، والمتخصصين والمحترفين في مجالاتهم: ألا ينحصروا فقط بالنشر للجمهور العربي (وإن كان ذلك من أهم الواجبات)، وأن يحاولوا جهدهم لتشكيل قوى أكبر سواءٌ مع بقية الأمة الإسلامية من الأعاجم، ثم بقية عموم الناس على أي أرضية مشتركة يمكن البناء عليها ثم التأثير من خلالها على القضايا التي تهمنا.

حتى لو كان ما تفعله مجرد قناة يوتيوب أو حساب تلجرام أو موقع إنترنت أو برنامج مفتوح المصدر أو أي مشروع آخر… إنها تظل نوعًا من القوة طالما يمكنك استخدامها لنصرة دينك وإخوانك في أي وقتٍ لاحق، تلك القوة التي نحن مأمورون بتجميع جميع أشكالها وأنواعها حسبما استطعنا:

(وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ) [الأنفال 60].

عن نصر السابع من أكتوبر

لطالما آمنت أن هذه الأحداث التاريخية هي اختبارات وابتلاءات يُبتلى بها من لم يشهدها قبل من شهدها، ليُرى كيف يتصرف وكيف تكون ردة فعله وكيف ينصر إخوانه وكيف يكون إيمانه… انتبه أن تظنّ أن هذا ابتلاء لأهل غزة وحدهم، هذا ابتلاءٌ على كل واحدٍ فينا أيضًا؛ هل يستمر في نومه أم هل ينتبه ويستيقظ.

ما فعله المقاومون يوم 7 أكتوبر كان نصرًا مؤزّرًا.

أناس محاصرون لا يمكن إدخال شربة ماء إليهم دون إذن العدو منذ 17 عامًا، لا يكادون يمتلكون أرضًا كافية ليعيشوا عليها، قليلوا العدّة والذخيرة… ومع ذلك تمكّنوا من تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر بل وسحلوه أمام العالم في صورة لم تُسبق من قبل.

قتلوا 1300 فطيس منهم واعتقلوا نحو 220 أسير، في عملية لم تستغرق 7 ساعات.

لم يحس بهم أحد، كل هذه المليارات من الدولارات التي أنفقها الاحتلال على مدار السنوات لبناء الجدار الفاصل الذي كان يُظنّ عنه أنه لا يمكن لنملة أن تخترقه… كل هذا ذهب أدراج الرياح وتبيّن أنه أوهن من بيت العنكبوت. هناك فيديوهات تبيّن كيف أن جنود الاحتلال كانوا يحتفلون ويرقصون بينما فجأة باغتهم جنود المقاومة وأرسلوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا عملٌ لم تقم به الجيوش العربية مجتمعة لا في 48 ولا 67 ولا 73.

هل تفهم حجم الحدث وما رأيناه للتو؟ لقد رأينا أناسًا محاصرين بين الكهوف والتلال والمزارع، يفعلون ما عجزت جيوشٌ كاملة عن فعله لعشرات السنين.

كانوا يريدون عمل اجتياح برّي على غزة، وإذا بهم يكتشفون أن كتائب النخبة المُدرّبة على اقتحام غزّة هي نفسها الكتائب التي مسحتها المقاومة عن الخريطة في غلاف غزّة وأخذوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا القصف الجنوني على غزة والمجازر التي يرتكبها العدو هدفه أمرٌ واحد: محو الإنجاز والنصر الذي فعله الأبطال يوم 7 أكتوبر وجعل الناس تتحدث عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال والناس والضحايا والأضرار المادية… إلخ بعيدًا عن نصر أول يوم.

لا تسمح لهم بذلك، لا تغرق في وحل الحزن والأسى وتنسى النصر المؤزّر الذي حباه الله إخوانك.

تخيّل كيف يمكن لألف جندي فقط أن يتسببوا في كل هذه الأحداث على مستوى العالم، إلى درجة أن تحرّك أمريكا أكبر حاملة طائرات في الدنيا إلى شواطئ غزة، وأن تحرّك دول أوروبا بارجاتها الحربية إلى القرب من سواحلها، فقط تحسّبًا لوقوع دولة الاحتلال في مزيدٍ من الورطات. لقد خافوا عليهم إلى درجة أنهم ظنّوا أن دولتهم قد تزول فاضطروا إلى هذا التدخل الكبير والمباشر.

هذا نصرٌ تاريخي هائل، ودفعة قوية وإحياء وبعث للأمة الإسلامية لم يكن ليحصل لولا أنه حصل بهذه الصورة. لماذا؟ لأنه يدفعنا جميعًا للتساؤل: إن كان هذا الاحتلال الجاثم على صدورنا، والذي يحوّل جميع دول المنطقة إلى عملاء وخونة ومنافقين لأجل حمايته ويقرف حياتنا عن عمد من أجل ذلك… إن كان هذا الاحتلال أوهن من بيت العنكبوت إلى درجة أن ألف رجلٍ فقط قادرون على الفتك به وتشريد أهله، فكيف ونحن أمة المليارين مسلم لا نقدر على فعل أكثر من ذلك؟

لطالما كنتُ أحلم بكيفية التخلص من التفوّق التقني لأعدائنا علينا، وكيف أنه ربما يمكننا إيجاد وسائل وآليات تقلّص هذا الفارق في وقتٍ قصير بفضل توفيق الله لنا، كما قال الشيخ أحمد الحرّاني رحمه الله: أن الله يؤيد عباده المؤمنين وينزل عليهم بركاته لكي يتعلّموا ويعرفوا ما يدركه الكافرون من علوم الدنيا في قرونٍ، يهبهم الله إيّاه في سنواتٍ قليلة من الاجتهاد”… وها أنا ذا أراه أمام عينيّ: مناطيد مربوطة بمراوح عملاقة، مصنّعة محليًا وتبدو أنها مجرّد خردة حديد ملحومة مع بعضها، لتجاوز الجدار العازل الإسرائيلي صاحب الأساطير!

درستُ قبل أشهر تفسير سورة العنكبوت، وانبهرتُ بتفسير قوله تعالى: “مثلُ الذين اتخذوا من دونِ الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإنّ أوهن البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ لو كانوا يعلمون”. هذا تشبيهٌ لا أبلغ منه للمشركين الذين ظنّوا أن اتخاذهم معبودين من دون الله سيقرّبهم إلى الله، وأنه سيحميهم ويقويهم في الدنيا… وإذا بالواقع على العكس من ذلك: المشرك أكثر الناس خوفًا من الآخرة وأكثرهم خوفًا من الموت، لا يستجيب شركاؤه الذين عبدهم من دون الله له، بل على العكس أيضًا من ذلك، يبعده ذلك عن الله أكثر فأكثر، وهو يظن أنه في غاية الحماية والمنعة. مثله كمثل العنكبوت التي تظنّ أنها تبني بيتًا لنفسها من الخيوط لتعيش عليه، وإذا بأقل دفعة هواء أو رشّة ماء أو خطوةِ حيوانٍ ينهار بيتها على رأسها بالكامل ولا يعبئ أحدٌ بها ولا ببيتها.

هذا هو حال المشركين الذين يعبدون أحدًا من دون الله: يظنون في أنفسهم المنعة والقوة، وإذا في الواقع بنياهم كبيت العنكبوت ينهار بأقل مقاومة ومدافعة، وبأقل تقديرٍ من الله.

إخواني فليستمدّ الواحد منّا بعض هذه النفحات الإيمانية التي قد تكفيه طيلة عمره. هذه الأحداث التي ينصر فيه المؤمن دين ربّه ثمّ إخوانه المؤمنين وفق أمر ربّه هي هبات ربانية على الإنسان أن يتفطن لها ويجمعها في حياته وكأنه يجمع قطعًا من ألماس.

لا أحد مطالبٌ بتحقيق نتائج وثمرات واقعية فهذه على الله سبحانه، لكن كل امرءٍ عليه من العمل ما يقدر عليه. هل تفهم ما أقول؟ هذه الأعمال هي من أجلك أنت وليس من أجلهم. إنها أمورٌ تملء بها صحيفة حسناتك، وتقيك من النفاق الأكبر، ودليلٌ أمام ربّ العالمين على حياة قلبك وانحيازك لأمّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

ما تفعله ليس من أجلهم، ولا لأجل أحدٍ من الناس، إنه لأجلك أنت.

ويكأن الله سبحانه يبارك ويوفّق الإنسان بقدر ما يشتعل الإيمان في قلبه في هذه الأحداث.

كلنا نحزن للمجازر والمصائب التي تنزل بأهلنا في غزّة، والقصف المستمر وانقطاع المياه والدواء والغذاء والكهرباء وغير ذلك… لكن لا تدع ذلك يسيطر عليك، فهذا هو ما يريده العدو منك. لا تجعل مراقبتك واهتمامك بهم سلبيًا متفرجًا، بل تأمّل في النصر المؤزّر الذي حصل في أول يوم، وتبعاته وثمراته التي ستجني الأمة الإسلامية ثمراتها إن شاء الله لسنواتٍ مقبلة، فقط على أيدي بضعة نفرٍ محاصرين متابعين مطلوبين في بقعةٍ جغرافية لم يكن يظن أحد أنها قادرةٌ على ذلك.

لا تكثر من النشر عمّا يحصل لغزة الآن، دون أن تنشر عن النصر العظيم الذي حصلت عليه في ذلك اليوم.

ما حصل يوم 7 أكتوبر، سيتكرر في مراتٍ كثيرة، ولم يكن بعد هزيمة السحرة مجتمعين أمام عصا موسى سوى شقّ البحر.

جولة في الأناضول

ارتحلتُ قبل أسبوعين إلى مدينة قيصري في تركيا – وسط الأناضول – لأحد المخيمات العلمية التي فيها، وقد زرتُ قبل أشهر مدينة قونيا. هذه ليست المرة الأولى التي أزورها بل زرتها مراتٍ كثيرة أيضًا لنفس السبب، ولكن غرضي هذه المرة كان سبرَ الاستقرار فيها والانتقال إليها من اسطنبول على عكس المرات السابقة.

حياة المدن الكبرى حيث يعيش 16 مليون إنسان حياة كبيرة متعبة لا يعرف الفرق بينها وبين المدن الصغيرة إلا من جرّب الاثنين. تخيّل أنني بحاجة إلى 15 دقيقة للنزول من الشارع الرئيسي إلى الميترو (قطار الأنفاق) في محطة سيركجي باسطنبول فقط لكي أبدأ بالانتقال فيه، بينما يمكنك قضاء مشوارك في نفس المدة في المدن العادية. بعد فترة ستجد عمرك يذهب في المواصلات.

قيصري وقونيا وأضروم وملاطيا وسيفاس وغيرها من مدن الأناضول هي مدن داخلية يعيش فيها كمتوسط مليون إنسان، ويعمل أهلها بمختلف الصناعات والتجارات. فيها جالية عربية مختلفة على حسب المدينة، كما أن الجامعات تلعب دورًا فالكثير من الطلاب لا يُقبلون في المدن الكبرى فيأتون للدراسة في مدن الأناضول المختلفة.

عشتُ في اسطنبول نحو 8 سنين وسئمتُ من العيش فيها مؤخرًا لعدة أسباب:

  • المواصلات كما ذكرتُ آنفًا. كل مشوار يحتاج أن تعطيه ساعة ذهابًا وساعة إيابًا، يعني ساعتين مواصلات في اليوم. هذا فضلًا عن الحاجة إلى تبديل أكثر من وسيلة مواصلات للأماكن الأبعد (الانتقال من الطرف الآسيوي للأوروبي). ستجد نفسك مرهقًا في نهاية اليوم وليس لديك مزاج لعمل شيئ فأنت واقف على رجليك طوال الوقت وتُطحن في المواصلات مع مئات الناس.
  • غلاء كل شيء. تخيل أن استئجار غرفتين وصالون في اسطنبول يمكنك به استئجار بيتين في قيصري كل واحد منها يكون 3+1 (ثلاث غرف وصالون) بنفس السعر، أي ما مجموعه 4 أضعاف المساحة. هذه ليست مبالغة أو تشبيه بل هو الواقع فعلًا ويمكنك التأكد بنفسك. نفس الأمر ينطبق على المواصلات وأسعار الطعام والفواتير… كل شيء ضعف ثمنه تقريبًا.
  • حياة المدن الصغيرة هادئة، الشوارع فسيحة والأرصفة كبيرة والناس لا أحد فيهم يتشاكل مع أحد فكلٌ مشغولٌ برزقه ومرتاحٌ في عمله. في اسطنبول تحسّ أن الجميع يريد أن يطحن الآخرين.
  • النساء أكثر احتشامًا في مدن الأناضول، على عكس المدن الكبرى حيث تتسابق الفتيات والسياح للخلوعة. والناس محافظون أكثر بشكل عام.
  • نفوس الناس أكثر طيبة بشكل عام. في اسطنبول يكثر النصب والاحتيال من مختلف الجنسيات، ولا أحب مساكنة أناسٍ يختارون الخمرجي على الطيّب (مثال لن يفهمه إلا من في تركيا).
  • المدينتان قريبتان من خط الزلازل لكنني أؤمن أن قيصري أفضل من اسطنبول في هذه الناحية، لأن معظم البيوت في قيصري هي ناطحات سحاب (+10-15 طابق) وقد بُنيت في آخر 20 سنة بعد زلزال إزميت، ولهذا فالمباني تعتبر حديثة ويمكنها التحمّل على عكس مباني اسطنبول القديمة والمرهقة. زلزال 7.5 ريختير الأخير في كهرمان مرعش جنوب تركيا لم يهدم أي مبنى في قيصري (هدموا لاحقًا 300 مبنى بسبب التشققات وقابلية الانهيار لكن لم ينهر أي واحد في البداية).
  • لا الهواء هواء ولا الماء ماء ولا الخضروات خضروات في اسطنبول. الهواء به رطوبة عالية وتلوّث كبير بسبب المواصلات وكثافة السكان، والماء ليس نقيًا كنقاء الأنهار والينابيع في الأناضول، وهو بدوره ما يؤثر على كل شيء في الطعام واللحوم والخضروات… تحس أن حتى طعم كل شيء مختلف عمّا في اسطنبول.
  • لدي بعض الأعمال التي يمكنني إنجازها مع بعض الأصدقاء في المدن القريبة.
  • أسباب أخرى…

أعمل في مجال الكتابة وتطوير البرمجيات ولهذا فأنا غير مرتبط بالمدن الكبرى مثل اسطنبول، وتوفير المزيد من المال بالنسبة لي سيكون مفيدًا جدًا على المدى البعيد لحياتي. ولهذا فإنه لا سبب منطقي للبقاء في اسطنبول من هذا المنظور.

مدن الأناضول جميلة جدًا بل هي من أجمل بلاد الدنيا، وكل مدينة فيها ما لا يوجد في المدينة الأخرى، وفوق كل هذا فالمعيشة فيها مريحة. هذه بعض الصور المختلفة للمدن التي زرتُها (من كاميرا الموبايل ولهذا فالصور تبدو أقل من جمالها في الحقيقة، وهي غي مفلترة):

على الإنسان أن يحاول أن يتخفف من الدنيا قدر المستطاع. يمكنني البقاء في المدينة إن شئت والعمل في الوظيفة التي تناسبني إن شئت والمنافسة على أفضل فرص المعيشة إن شئت، ولله الحمد معي ماجستير وخبرة سنوات في مجال علوم الحاسوب وما يرتبط بها… لكن لماذا يفني الإنسان نفسه في متاع الدنيا الزائل؟ لماذا لا يقبل بما هو متوفر له بالفعل، بل يذهب ويصرف معظم وقته وحياته للحصول على المزيد من الملبس والمأكل والمشرب والمبيت؟

لقد طغت المادية على حياة الناس حتى دون أن يشعروا، وصارت هي تجربة الحياة والعيش الافتراضية التي يريدونها. تخرّجتُ منذ 8 أشهر من الماجستير ولم ألتحق بوظيفة من وقتها بل لم أبحث عن واحدة أصلًا، حيث كانت المشاريع الجانبية التي أعمل عليها تكفيني بفضلٍ من الله. لستُ ضد الوظيفة بل أجدها الخيار الأنسب لمعظم الناس لفترةٍ من الزمن، ولكن الخليط المادي من العيش في المدن الكبرى مع الوظيفة التي تسحب معظم وقتك وأيضًا في المواصلات الصعبة… هذه حاول الخلاص منها.

خلال هذا الوقت صرتُ أسافر إلى عددٍ من مدن الأناضول وأتامل في الحياة التي حولنا، وكيف يعيش الناس، وهل هذه يا ترى هي فعلًا الحياة التي عليّ أن أختارها لنفسي… أكرمني الله أيضًا بالدراسة على يد أحد المشايخ الفضلاء، فكنا ننعزل بعيدين عن الناس خارج المدينة لعدة أيام نتدارس كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بعيدًا عن صخب الدنيا وضجيجها… بعد 1400 سنة من نزولهما، لا زال الله يكرم بعضًا من عباده بالانقطاع لدراستهما واستخلاص ما فيهما من العلم والحكمة والموعظة… تجربة من أحلى تجارب الدنيا، لا يمكن لمشغولٍ بالدنيا أن يخوضها.

لا أدعو أحدًا هنا إلى اتخاذ إجراء فوري، لكل إنسان وضعه الاجتماعي ومسؤولياته، ومسار حياته الذي عليه أن يقرر كيف يختاره. لكن هذه التدوينة فقط “جولة” ليرى الإنسان أن فرصًا بديلة من العيش والطمأنينة والبركة وراحة البال متوفرة، وأنه عليه هو أن يختار بين هذه الحياة أو هذه الحياة.

لا أصوّر نفسي كشخصٍ تخلّص من هذه النظرة المادية هو الآخر… لديّ مشاكل شخصية متعددة ككل الناس، وأيضًا بعض الأمور التي أحاول الخلاص منها خصوصًا فيما يتعلق بالاستهلاكية، ولكن ربّ حامل فقهٍ ليس بفقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه.

زرتُ البارحة مقبرة توبكابي في اسطنبول، على الرغم من أنه لا أحد لي فيها، لأخلو بنفسي قليلًا وأتذكر ما نجاهده كل يوم من أمور الدنيا… وفاجأني شاهد القبر هذا، حيث لم يُكتب عليه سوى: “الدنيا فانية، الله هو الباقي”.

المتخصص صاحب الأوراق البحثية والمشاريع العملية

هذا أمرٌ للأسف منتشر انتشارًا كثيرًا.

تجد الإنسان يريد أن يتخصص في مجالٍ فرعي من مجالات العلوم كالهندسة أو الطب أو الفيزياء وغير ذلك، ثم لا يعبئ بأي شيءٍ يحصل في الدنيا. لا يريد متابعة أي شخص يكتب تغريدة واحدة عن السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الدين، بل كل ما يريده هو محتوى مرتبط بتخصصه ومجاله فقط.

لا تدخل معه أبدًا في نقاشات عن مواضيع خارج ما يعمل من أجله كل يوم، فقد يصاب بهيستيريا أو حالة صرع.

هو منشغلٌ بالتصميم أو البرمجة أو التدوين أو الذكاء الاصطناعي أو الفيزياء أو العلوم، فقط، وكل شيءٍ خارج عن هذا هو أمرٌ يسبب له القلق ويعتبره بحاجة للتخلص منه.

لا تحاول أن تخبره أن عليه واجبًا شرعيًا أن يربط بين المعارف التقنية التي اكتسبها وبين ما تحتاجه أمته من خبرات، فقد يصفك مباشرة بالتطرّف.

يا ترى ما الذي يدفع الناس إلى ذلك؟ نعم ليس هناك مشكلة في أن يكون لديك تخصص أنت مهتم به وتتابعه بشغف واستمرار، لكن أن تحصر حياتك ووجودك كله في الدنيا في هذا المجال فقط ثم لا تعبئ بأي شيءٍ يحصل خارجه فهذه حالة مرضية على الإنسان الخروج منها.

الكثير مما يحصل في السياسة والدين والاقتصاد والاجتماع وتغيّر المناخ وغيرها سيكون مما يمسّك أنت سواءٌ شئت أم أبيت. كونك مصمم لا تهتم سوى بالتصميم أو صانع محتوى لا يهتم سوى بالكتابة أو مبرمج لا يهتم سوى بالبرمجة أو بيولوجي لا يهتم سوى بالبيولوجيا لن يساعدك، بل على العكس، ستكون كالأطرش الذي لا يعرف ما يجري في الدنيا ولا خيار له سوى أن يُقاد مع بقية الجموع في بلاده.

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid0oMqFhNvgnYqnPDiMwj73xtSdBTsE4M9Seo7rGD9prqzkityNCjY9XnSTxcS5xZk6l&id=100002802388124

الذي يدفع الناس إلى ذلك هو المال. ببساطة صرف المزيد من الوقت في التخصص أو المجال الفرعي وترك كل شيء خارجه هو أكبر ضمانٍ ممكن لجلب المال، فأنت تصرف معظم وقتك لتعلّم مجالك فحسب وتنسى كل الدنيا خارجه، وبالتالي هذا مدعاةٌ لجلب المنافع لك مع الوقت.

يركض الإنسان وراء المال وينسى كل شيء عدا عن ذلك.

وهذا وإن كان قبيحًا بالإنسان، كل إنسان، إلا أنه أكثر قبحًا بالإنسان المسلم. من المفترض أن يؤمن المسلم أن هذه الدنيا من أولها إلى آخرها هي مجرّد ساعة من نهار، اختبار سريع للإيمان أو الكفر والجواب إما بنعم أو لا، فكيف يهدر جلّ وقته في صناعات الدنيا وينسى ما هو أهم من ذلك؟

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس، 45]

كثيرٌ من هؤلاء المتخصصين أصحاب 70 ورقة بحثية منشورة في أرقى المجلات العلمية، لا يعرفون أحكام سجود السهو، ولا قرؤوا صحيح البخاري مرةً واحدة على الأقل في حياتهم. قد تجدهم يطلبون الحكمة في جبال الهند والصين، ثم يشمئزون من أكبر مصدر للحكمة في الكون.

وكثيرٌ منهم لا يعبئ بسفاح مجرم يحكم بلاده، بل على العكس قد يعتبرها فرصة شرف أن يقابله ويتقرّب منه، لعله يحصل منه على شيءٍ من لعاعة الدنيا؟ رحم الله الإمام أحمد كان يقول كل من يمشي مع الولاة والقضاة وسخ، وهذا على زمن المعتصم فكيف بالزمن الطيب الجميل الرائع الذي نحن فيه.

يجب على الإنسان أن يخلو بنفسه قليلًا، ويفكّر أولًا فيما أعده لآخرته، ثم ينظر في الدنيا وموقعه منها، وكيف يمكنه عمل شيء لخدمة دينه وأمته.

أما أن يكون مجرد آلة تكنوقراطية، وظيفتها فقط جمع الجوائز العلمية والغرق بالتخصصات التقنية، مثله مثل أي كافر في الدنيا يتمتع ويأكل كما تتمتع الأنعام، فهذا لا شيء يبرّد قلبي فيه وبأمثاله سوى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه:

(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).

قال ابن باز في شرح الحديث:

ويقول ﷺ: تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة والقطيفة الذي يعمل لها من أجلها، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، لا يعمل للآخرة، ولكن يعمل للدنيا، فهذا دعا عليه النبي ﷺ بالتعاسة، وفسر هذا بقوله: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش سماه عبدا لها لأنه يعمل لها، يرضى لها، ويغضب لها، لا يغضب لله ويرضى لله، بل يغضب لما لم يحصل له من الدنيا، ويرضى لما حصل، فهو عبد الدنيا ليس عبدا لله، فالواجب على المؤمن أن يكون عبدا لله، وأن يستعين بنعم الله على طاعة الله، وأن يطلب المال من جهته الحلال، وأن يكون همه ما يرضي الله ويقرب لديه، وألا يكون غضبه للدنيا ورضاه للدنيا.

انظر اليوم في الناس، وستجد أن أكثر ما يولونه الأهمية في حياتهم هو المال والوظيفة، وكل شيءٍ يأتي بعد هؤلاء. ثمّ العجب كل العجب أن نفس هؤلاء الناس يشتكون من قلة البركة والأيام الصعبة، والكوارث البيئية وتقلب المناخ وأن “الناس الطيبة لم تعد موجودة”.

توقف للحظة من حياتك واعرف أن الدنيا ليست مجرّد العمل الذي تقوم به فيها، بل هي حرث آخرتك التي ستبقى فيها إلى أبد الآبدين، فاحرص على أن تستعمل ما يقع بيدك منها فيما يوصلك إلى تلك الغاية.