ارتحلتُ قبل أسبوعين إلى مدينة قيصري في تركيا – وسط الأناضول – لأحد المخيمات العلمية التي فيها، وقد زرتُ قبل أشهر مدينة قونيا. هذه ليست المرة الأولى التي أزورها بل زرتها مراتٍ كثيرة أيضًا لنفس السبب، ولكن غرضي هذه المرة كان سبرَ الاستقرار فيها والانتقال إليها من اسطنبول على عكس المرات السابقة.
حياة المدن الكبرى حيث يعيش 16 مليون إنسان حياة كبيرة متعبة لا يعرف الفرق بينها وبين المدن الصغيرة إلا من جرّب الاثنين. تخيّل أنني بحاجة إلى 15 دقيقة للنزول من الشارع الرئيسي إلى الميترو (قطار الأنفاق) في محطة سيركجي باسطنبول فقط لكي أبدأ بالانتقال فيه، بينما يمكنك قضاء مشوارك في نفس المدة في المدن العادية. بعد فترة ستجد عمرك يذهب في المواصلات.
قيصري وقونيا وأضروم وملاطيا وسيفاس وغيرها من مدن الأناضول هي مدن داخلية يعيش فيها كمتوسط مليون إنسان، ويعمل أهلها بمختلف الصناعات والتجارات. فيها جالية عربية مختلفة على حسب المدينة، كما أن الجامعات تلعب دورًا فالكثير من الطلاب لا يُقبلون في المدن الكبرى فيأتون للدراسة في مدن الأناضول المختلفة.
عشتُ في اسطنبول نحو 8 سنين وسئمتُ من العيش فيها مؤخرًا لعدة أسباب:
- المواصلات كما ذكرتُ آنفًا. كل مشوار يحتاج أن تعطيه ساعة ذهابًا وساعة إيابًا، يعني ساعتين مواصلات في اليوم. هذا فضلًا عن الحاجة إلى تبديل أكثر من وسيلة مواصلات للأماكن الأبعد (الانتقال من الطرف الآسيوي للأوروبي). ستجد نفسك مرهقًا في نهاية اليوم وليس لديك مزاج لعمل شيئ فأنت واقف على رجليك طوال الوقت وتُطحن في المواصلات مع مئات الناس.
- غلاء كل شيء. تخيل أن استئجار غرفتين وصالون في اسطنبول يمكنك به استئجار بيتين في قيصري كل واحد منها يكون 3+1 (ثلاث غرف وصالون) بنفس السعر، أي ما مجموعه 4 أضعاف المساحة. هذه ليست مبالغة أو تشبيه بل هو الواقع فعلًا ويمكنك التأكد بنفسك. نفس الأمر ينطبق على المواصلات وأسعار الطعام والفواتير… كل شيء ضعف ثمنه تقريبًا.
- حياة المدن الصغيرة هادئة، الشوارع فسيحة والأرصفة كبيرة والناس لا أحد فيهم يتشاكل مع أحد فكلٌ مشغولٌ برزقه ومرتاحٌ في عمله. في اسطنبول تحسّ أن الجميع يريد أن يطحن الآخرين.
- النساء أكثر احتشامًا في مدن الأناضول، على عكس المدن الكبرى حيث تتسابق الفتيات والسياح للخلوعة. والناس محافظون أكثر بشكل عام.
- نفوس الناس أكثر طيبة بشكل عام. في اسطنبول يكثر النصب والاحتيال من مختلف الجنسيات، ولا أحب مساكنة أناسٍ يختارون الخمرجي على الطيّب (مثال لن يفهمه إلا من في تركيا).
- المدينتان قريبتان من خط الزلازل لكنني أؤمن أن قيصري أفضل من اسطنبول في هذه الناحية، لأن معظم البيوت في قيصري هي ناطحات سحاب (+10-15 طابق) وقد بُنيت في آخر 20 سنة بعد زلزال إزميت، ولهذا فالمباني تعتبر حديثة ويمكنها التحمّل على عكس مباني اسطنبول القديمة والمرهقة. زلزال 7.5 ريختير الأخير في كهرمان مرعش جنوب تركيا لم يهدم أي مبنى في قيصري (هدموا لاحقًا 300 مبنى بسبب التشققات وقابلية الانهيار لكن لم ينهر أي واحد في البداية).
- لا الهواء هواء ولا الماء ماء ولا الخضروات خضروات في اسطنبول. الهواء به رطوبة عالية وتلوّث كبير بسبب المواصلات وكثافة السكان، والماء ليس نقيًا كنقاء الأنهار والينابيع في الأناضول، وهو بدوره ما يؤثر على كل شيء في الطعام واللحوم والخضروات… تحس أن حتى طعم كل شيء مختلف عمّا في اسطنبول.
- لدي بعض الأعمال التي يمكنني إنجازها مع بعض الأصدقاء في المدن القريبة.
- أسباب أخرى…
أعمل في مجال الكتابة وتطوير البرمجيات ولهذا فأنا غير مرتبط بالمدن الكبرى مثل اسطنبول، وتوفير المزيد من المال بالنسبة لي سيكون مفيدًا جدًا على المدى البعيد لحياتي. ولهذا فإنه لا سبب منطقي للبقاء في اسطنبول من هذا المنظور.
مدن الأناضول جميلة جدًا بل هي من أجمل بلاد الدنيا، وكل مدينة فيها ما لا يوجد في المدينة الأخرى، وفوق كل هذا فالمعيشة فيها مريحة. هذه بعض الصور المختلفة للمدن التي زرتُها (من كاميرا الموبايل ولهذا فالصور تبدو أقل من جمالها في الحقيقة، وهي غي مفلترة):
على الإنسان أن يحاول أن يتخفف من الدنيا قدر المستطاع. يمكنني البقاء في المدينة إن شئت والعمل في الوظيفة التي تناسبني إن شئت والمنافسة على أفضل فرص المعيشة إن شئت، ولله الحمد معي ماجستير وخبرة سنوات في مجال علوم الحاسوب وما يرتبط بها… لكن لماذا يفني الإنسان نفسه في متاع الدنيا الزائل؟ لماذا لا يقبل بما هو متوفر له بالفعل، بل يذهب ويصرف معظم وقته وحياته للحصول على المزيد من الملبس والمأكل والمشرب والمبيت؟
لقد طغت المادية على حياة الناس حتى دون أن يشعروا، وصارت هي تجربة الحياة والعيش الافتراضية التي يريدونها. تخرّجتُ منذ 8 أشهر من الماجستير ولم ألتحق بوظيفة من وقتها بل لم أبحث عن واحدة أصلًا، حيث كانت المشاريع الجانبية التي أعمل عليها تكفيني بفضلٍ من الله. لستُ ضد الوظيفة بل أجدها الخيار الأنسب لمعظم الناس لفترةٍ من الزمن، ولكن الخليط المادي من العيش في المدن الكبرى مع الوظيفة التي تسحب معظم وقتك وأيضًا في المواصلات الصعبة… هذه حاول الخلاص منها.
خلال هذا الوقت صرتُ أسافر إلى عددٍ من مدن الأناضول وأتامل في الحياة التي حولنا، وكيف يعيش الناس، وهل هذه يا ترى هي فعلًا الحياة التي عليّ أن أختارها لنفسي… أكرمني الله أيضًا بالدراسة على يد أحد المشايخ الفضلاء، فكنا ننعزل بعيدين عن الناس خارج المدينة لعدة أيام نتدارس كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بعيدًا عن صخب الدنيا وضجيجها… بعد 1400 سنة من نزولهما، لا زال الله يكرم بعضًا من عباده بالانقطاع لدراستهما واستخلاص ما فيهما من العلم والحكمة والموعظة… تجربة من أحلى تجارب الدنيا، لا يمكن لمشغولٍ بالدنيا أن يخوضها.
لا أدعو أحدًا هنا إلى اتخاذ إجراء فوري، لكل إنسان وضعه الاجتماعي ومسؤولياته، ومسار حياته الذي عليه أن يقرر كيف يختاره. لكن هذه التدوينة فقط “جولة” ليرى الإنسان أن فرصًا بديلة من العيش والطمأنينة والبركة وراحة البال متوفرة، وأنه عليه هو أن يختار بين هذه الحياة أو هذه الحياة.
لا أصوّر نفسي كشخصٍ تخلّص من هذه النظرة المادية هو الآخر… لديّ مشاكل شخصية متعددة ككل الناس، وأيضًا بعض الأمور التي أحاول الخلاص منها خصوصًا فيما يتعلق بالاستهلاكية، ولكن ربّ حامل فقهٍ ليس بفقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه.
زرتُ البارحة مقبرة توبكابي في اسطنبول، على الرغم من أنه لا أحد لي فيها، لأخلو بنفسي قليلًا وأتذكر ما نجاهده كل يوم من أمور الدنيا… وفاجأني شاهد القبر هذا، حيث لم يُكتب عليه سوى: “الدنيا فانية، الله هو الباقي”.
صدقت
المدن الصغيرة جميلة، هادئة وهوائها نظيف وأهلها طيبين
مقارنة بالعاصمة ربما في المدن الصغيرة يفوتك وظائف وفرص تعليمية قوية وأنشطة نوعية لكن بعد مرحلة التعلم والبناء.. أجزم أن سكن المدن الصغيرة نعمة
صح، المدن الكبيرة تضغط على الإنسان و تجعله سريع الإثارة، و هي طبعا تتسم بالغلاء و توفر للانسان كل شيء تقريبا. لكن المدن الصغيرة و القرى هادئة و أسعارها أرخص، و هي أقرب للطبيعة.
عدد المرات التي زرت فيها اسطنبول لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، للوهلة الأولى تتمنى العيش فيها، ولكن بعد قضاء أكثر من يوم فيها ترى أن الحياة مختلفة عما ألفناه وأن الحياة هناك تتخطف وقتك ودينك وأسرتك وكل ما تملك تستيقظ لكي تحاول الحفاظ على ما لديك.
خيرًا فعلت ووفقك الله وكان عونك في إختيارك
الدنيا فانية والله باق. عبارة بليغة
قونية هي مدينة نصر الدين خوجا، لعلك تكتب القليل عن تاريخه.
هذه مدينة جميلة وأتفق معك، عسى الله أن يرزقنا هذا النوع من الاستقرار.
التدوينة والصور جميلة، اليوم كُنت أفكر في الفرق بين المدن الكبيرة والصغيرة في التسمية حيث في اللغة اﻹنجليزية المدن الكبيرة تُمسى city والصغيرة تسمى town وليس لدينا في اللغة العربية هذه التفرقة في التسمية، لكن يوجد كلمة بلدة وهي بين القرية والمدينة الصغيرة على ما أعتقد
أحد العقبات التي تحول بيني وبين التفكير في الانتقال إلى مدينة خارج العاصمة أن العمل في مجال البرمجة مرتبط بالعاصمة خصوصاً من يعمل مع شركات كبرى مثل شركات الاتصالات حيث توجد رئاستها فقط في العاصمة
أحيانًا يكون هذا الوضع بالفعل لا مناص منه، وفي بعض الأحيان الأخرى تكون هناك فرصة متعددة نغفل عنها لأننا لا نظن أننا قد نقبل بوظيفة أو مرتب أقل بسبب وجودنا في تلك الأماكن الباهظة.
أقصد الانتقال إلى المدن والأماكن الأرخص قد يجعلنا نقبل بوظائف أقل مرتبًا، لأنها صارت تكفينا.
بالتوفيق لك أخ معتز وشكرًا على مرورك.
كلما كانت الحياة بسيطة كلما كانت حياةً عظيمة، هذا سرٌّ لا يعرفه معظم الناس، كثرة المشاغل والملهيات وطغيان المادية والاستهلاكية تبعث في الحياة الفوضى والتشتت وتستنزف الطاقات البدنية والفكرية والنفسية والروحية للإنسان… بينما البساطة تبعث في الحياة النظام والتركيز والهدوء وتوجه الطاقات نحو الأهداف التي تستحقّ، كم من الأهداف التي نظنُّ أنها مستحيلة هي ممكنة لو عشنا حياة أبسط!
السلام عليكم أخي محمد
قضيت سابقاً حوالي الخمس سنوات من عمري في بلدة تابعة لسيواس وأنا أؤيدك فيما ذكرته … الحياة الهادئة وسط مكان غير مزدحم لا يوازيها الحياة في المدن الضخمة … وكون عملك غير مرتبط بمكان معين فهذه نعمة بارك الله لك فيها وحفظها لك ورزقنا على خير ما رزقك.
الحياة في الأماكن الهادئة نعمة لا يقدرها الكثيرون … توفير في الوقت والجهد والمال لما هو أهم … وقت ببركة أكثر يعني قضاء أمور أكثر.