عن نصر السابع من أكتوبر

لطالما آمنت أن هذه الأحداث التاريخية هي اختبارات وابتلاءات يُبتلى بها من لم يشهدها قبل من شهدها، ليُرى كيف يتصرف وكيف تكون ردة فعله وكيف ينصر إخوانه وكيف يكون إيمانه… انتبه أن تظنّ أن هذا ابتلاء لأهل غزة وحدهم، هذا ابتلاءٌ على كل واحدٍ فينا أيضًا؛ هل يستمر في نومه أم هل ينتبه ويستيقظ.

ما فعله المقاومون يوم 7 أكتوبر كان نصرًا مؤزّرًا.

أناس محاصرون لا يمكن إدخال شربة ماء إليهم دون إذن العدو منذ 17 عامًا، لا يكادون يمتلكون أرضًا كافية ليعيشوا عليها، قليلوا العدّة والذخيرة… ومع ذلك تمكّنوا من تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر بل وسحلوه أمام العالم في صورة لم تُسبق من قبل.

قتلوا 1300 فطيس منهم واعتقلوا نحو 220 أسير، في عملية لم تستغرق 7 ساعات.

لم يحس بهم أحد، كل هذه المليارات من الدولارات التي أنفقها الاحتلال على مدار السنوات لبناء الجدار الفاصل الذي كان يُظنّ عنه أنه لا يمكن لنملة أن تخترقه… كل هذا ذهب أدراج الرياح وتبيّن أنه أوهن من بيت العنكبوت. هناك فيديوهات تبيّن كيف أن جنود الاحتلال كانوا يحتفلون ويرقصون بينما فجأة باغتهم جنود المقاومة وأرسلوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا عملٌ لم تقم به الجيوش العربية مجتمعة لا في 48 ولا 67 ولا 73.

هل تفهم حجم الحدث وما رأيناه للتو؟ لقد رأينا أناسًا محاصرين بين الكهوف والتلال والمزارع، يفعلون ما عجزت جيوشٌ كاملة عن فعله لعشرات السنين.

كانوا يريدون عمل اجتياح برّي على غزة، وإذا بهم يكتشفون أن كتائب النخبة المُدرّبة على اقتحام غزّة هي نفسها الكتائب التي مسحتها المقاومة عن الخريطة في غلاف غزّة وأخذوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا القصف الجنوني على غزة والمجازر التي يرتكبها العدو هدفه أمرٌ واحد: محو الإنجاز والنصر الذي فعله الأبطال يوم 7 أكتوبر وجعل الناس تتحدث عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال والناس والضحايا والأضرار المادية… إلخ بعيدًا عن نصر أول يوم.

لا تسمح لهم بذلك، لا تغرق في وحل الحزن والأسى وتنسى النصر المؤزّر الذي حباه الله إخوانك.

تخيّل كيف يمكن لألف جندي فقط أن يتسببوا في كل هذه الأحداث على مستوى العالم، إلى درجة أن تحرّك أمريكا أكبر حاملة طائرات في الدنيا إلى شواطئ غزة، وأن تحرّك دول أوروبا بارجاتها الحربية إلى القرب من سواحلها، فقط تحسّبًا لوقوع دولة الاحتلال في مزيدٍ من الورطات. لقد خافوا عليهم إلى درجة أنهم ظنّوا أن دولتهم قد تزول فاضطروا إلى هذا التدخل الكبير والمباشر.

هذا نصرٌ تاريخي هائل، ودفعة قوية وإحياء وبعث للأمة الإسلامية لم يكن ليحصل لولا أنه حصل بهذه الصورة. لماذا؟ لأنه يدفعنا جميعًا للتساؤل: إن كان هذا الاحتلال الجاثم على صدورنا، والذي يحوّل جميع دول المنطقة إلى عملاء وخونة ومنافقين لأجل حمايته ويقرف حياتنا عن عمد من أجل ذلك… إن كان هذا الاحتلال أوهن من بيت العنكبوت إلى درجة أن ألف رجلٍ فقط قادرون على الفتك به وتشريد أهله، فكيف ونحن أمة المليارين مسلم لا نقدر على فعل أكثر من ذلك؟

لطالما كنتُ أحلم بكيفية التخلص من التفوّق التقني لأعدائنا علينا، وكيف أنه ربما يمكننا إيجاد وسائل وآليات تقلّص هذا الفارق في وقتٍ قصير بفضل توفيق الله لنا، كما قال الشيخ أحمد الحرّاني رحمه الله: أن الله يؤيد عباده المؤمنين وينزل عليهم بركاته لكي يتعلّموا ويعرفوا ما يدركه الكافرون من علوم الدنيا في قرونٍ، يهبهم الله إيّاه في سنواتٍ قليلة من الاجتهاد”… وها أنا ذا أراه أمام عينيّ: مناطيد مربوطة بمراوح عملاقة، مصنّعة محليًا وتبدو أنها مجرّد خردة حديد ملحومة مع بعضها، لتجاوز الجدار العازل الإسرائيلي صاحب الأساطير!

درستُ قبل أشهر تفسير سورة العنكبوت، وانبهرتُ بتفسير قوله تعالى: “مثلُ الذين اتخذوا من دونِ الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإنّ أوهن البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ لو كانوا يعلمون”. هذا تشبيهٌ لا أبلغ منه للمشركين الذين ظنّوا أن اتخاذهم معبودين من دون الله سيقرّبهم إلى الله، وأنه سيحميهم ويقويهم في الدنيا… وإذا بالواقع على العكس من ذلك: المشرك أكثر الناس خوفًا من الآخرة وأكثرهم خوفًا من الموت، لا يستجيب شركاؤه الذين عبدهم من دون الله له، بل على العكس أيضًا من ذلك، يبعده ذلك عن الله أكثر فأكثر، وهو يظن أنه في غاية الحماية والمنعة. مثله كمثل العنكبوت التي تظنّ أنها تبني بيتًا لنفسها من الخيوط لتعيش عليه، وإذا بأقل دفعة هواء أو رشّة ماء أو خطوةِ حيوانٍ ينهار بيتها على رأسها بالكامل ولا يعبئ أحدٌ بها ولا ببيتها.

هذا هو حال المشركين الذين يعبدون أحدًا من دون الله: يظنون في أنفسهم المنعة والقوة، وإذا في الواقع بنياهم كبيت العنكبوت ينهار بأقل مقاومة ومدافعة، وبأقل تقديرٍ من الله.

إخواني فليستمدّ الواحد منّا بعض هذه النفحات الإيمانية التي قد تكفيه طيلة عمره. هذه الأحداث التي ينصر فيه المؤمن دين ربّه ثمّ إخوانه المؤمنين وفق أمر ربّه هي هبات ربانية على الإنسان أن يتفطن لها ويجمعها في حياته وكأنه يجمع قطعًا من ألماس.

لا أحد مطالبٌ بتحقيق نتائج وثمرات واقعية فهذه على الله سبحانه، لكن كل امرءٍ عليه من العمل ما يقدر عليه. هل تفهم ما أقول؟ هذه الأعمال هي من أجلك أنت وليس من أجلهم. إنها أمورٌ تملء بها صحيفة حسناتك، وتقيك من النفاق الأكبر، ودليلٌ أمام ربّ العالمين على حياة قلبك وانحيازك لأمّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

ما تفعله ليس من أجلهم، ولا لأجل أحدٍ من الناس، إنه لأجلك أنت.

ويكأن الله سبحانه يبارك ويوفّق الإنسان بقدر ما يشتعل الإيمان في قلبه في هذه الأحداث.

كلنا نحزن للمجازر والمصائب التي تنزل بأهلنا في غزّة، والقصف المستمر وانقطاع المياه والدواء والغذاء والكهرباء وغير ذلك… لكن لا تدع ذلك يسيطر عليك، فهذا هو ما يريده العدو منك. لا تجعل مراقبتك واهتمامك بهم سلبيًا متفرجًا، بل تأمّل في النصر المؤزّر الذي حصل في أول يوم، وتبعاته وثمراته التي ستجني الأمة الإسلامية ثمراتها إن شاء الله لسنواتٍ مقبلة، فقط على أيدي بضعة نفرٍ محاصرين متابعين مطلوبين في بقعةٍ جغرافية لم يكن يظن أحد أنها قادرةٌ على ذلك.

لا تكثر من النشر عمّا يحصل لغزة الآن، دون أن تنشر عن النصر العظيم الذي حصلت عليه في ذلك اليوم.

ما حصل يوم 7 أكتوبر، سيتكرر في مراتٍ كثيرة، ولم يكن بعد هزيمة السحرة مجتمعين أمام عصى موسى سوى شقّ البحر.

1 comment / Add your comment below

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *