عذابات صغيرة

تمر تقريبًا سبعة أشهر على رجوعي إلى بلدي سوريا بعد تهجيرٍ طال ١٣ عامًا. لم يمضِ شهر على سقوط الأسد حتى كنتُ هنا في حلب. لا يمكن أن أصف فرحتي بهذا النصر الإلهي الذي وهبنا الله إياه بمحض مشيئةٍ منه وفضل، فأكتفي بالسير بين أزقة البلاد التي حُرمت منها طيلة تلك المدة مبتسمًا في ساعات الفجر حيث لا يراني أحد ولا أراه، تاركًا تعبيري عن هذه الفرحة لوقتٍ آخر.

وأعتقد أن هذه الفرحة جزءٌ فطري يثبتنا الله به ويعيننا على الصبر على أنواع “العذابات الصغيرة” التي نعيشها هنا، فليس من البديهي ولا السهل ولا العادي أن تكون في اسطنبول حيث كل وسائل الراحة والاتصال والتواصل والخدمات موجودة بنقرة زر تحت يديك، ثم تترك كل هذا لتنزل وتعيش عيشة دائمة في بلادٍ مزقتها الحرب حتى لم يبقَ بها شبكة كهرباء.

أنشر هذه التدوينة لا راغبًا في مدحٍ ولا فضل، ولكن مسجلًا لمواقف ومؤرشفًا لها، وحافظًا لها في سجل التاريخ، حتى لا تصبح طيّ النسيان وتأتي أجيالٌ تظن أن آباءهم لم يضحوا بشيء، ولا يتسلق على معشر المسلمين أدعياءٌ غيرهم وربائب بلاد الغرب ليزعموا أنهم هم أولى بثمرة هذا النصر الإلهي منهم مستقبلًا.

أولى العذابات الصغيرة عند رجوعي كانت أنني رجعتُ في أيام الشتاء، وفي التي هي أقسى برودةً منها. رجعتُ إلى بيت أسرتنا القديم الفارغ في أحد أحياء حلب العتيقة، وليس عندي أي وسيلة تدفئة إلا ثيابي التي أرتديها. تنخفض دراجات الحرارة في الليل حتى تصبح صفرًا أو أدنى من ذلك. ظللتُ أسبوعين لم أخرج أغراضي ولا أثاثي الذي أحضرته معي من مكانه من البرد، وأكتفي بمحاولة البقاء حيًا بلا كهرباء وبلا تدفئة في عزّ أيام الشتاء. مرت أيام باردة جدًا إلى درجة أنني كنت أصاب بالإسهال من البرد لأسبوع، وأتجنب المشي بسرعة في البيت حتى لا أحرّك الهواء البارد من مكانه، وأظل لابسًا جوربي وحريصًا على ألا يكون به ثقوب حتى أتمكن من المسح عليه للوضوء، وآخذ بقول أبي حنيفة في عدم وجوب المضمضة والاستنشاق حتى أتجنب التماس مع الماء المثلج في داخل وجهي.

الكهرباء قصة أخرى… كانت تأتي ساعتين فقط كل ٢٤ ساعة عندما رجعتُ إلى سوريا، فاشتركت أول بضعة أشهر بالأمبير. الأمبير هو مولدة كهرباء في كل منطقة من مناطق سوريا يقوم عليها شخص لا علاقة بالدولة ليوفر للناس الكهرباء لعددٍ معين من الساعات يوميًا بمقابل مبالغ فلكية، وفوقها لا تشغل هذه الكهرباء من الأمبير أي وسيلة تسخين أو تدفئة، بل فقط الأضواء والبراد والأجهزة العادية. الاشتراك الشهري يكلف ٨٠$ من أجل 2a. عليك أن تحضر كهربائي لتوصل مولدة الرجل بكهرباء منزلك عبر قاطع كهرباء تشتريه أنت، ثم تحصل على الكهرباء بعد أن تدفع مستحقاتك كل أسبوع. يعمل الأمبير مدة ١٢ أو ١٥ ساعة فقط باليوم (عحسب المنطقة)، وبعدها أنت متروك في الظلام.

تمر أيام وتتعطل عندي الغسالة أو لا تأتي الكهرباء الكافية لتشغيلها أصلا، فأضطر إلى غسل ثيابي الداخلية والخارجية على يدي مثلما كانت تفعل ربّات البيوت الأوائل. الماء مثلج ودرجة الحرارة صفر، ومع ذلك عليّ أن أغسل الثياب وإلا لن يفعلها أحد.

في البداية كنتُ مسرورًا برؤية أقاربي في المدينة، لكن سرعان ما تغير الأمر واكتشفتُ أن سنوات الحرب الطويلة قد غيرتهم للأسف ولم يعودوا كما كانوا من قبل. زياراتي الاجتماعية تكاد تكون كما هي في الغربة.

قفزة سريعة إلى أيام الصيف حيث بدأ الحر بالازدياد… الكهرباء تأتي الآن ساعتين في الصباح وساعتين في المساء. جئت لأركب منظومة طاقة شمسية لأحل موضوع الكهرباء هذا للأبد، ومستخدمًا آخر مدخراتي، فإذا بجاري الذي فوقي استولى على سطح المبنى وسجله باسمه عندما كنا خارج سوريا أثناء الثورة، فمنعنا من تركيب أي شيء لأن عنده ملكية السطح. حاولتُ معه بشتى الطرق وهو يرفض تحت حجة “أن السطح هش ويمكن أن ينهار”، وهو نفسه مركب لنفسه منظومة طاقة شمسية كاملة و٣ خزانات مياه عملاقة وأشياء أخرى على السطح. وهكذا حُرمت من أبسط حقوقي وعليّ أن أخوض معركة قضائية إن أردت حل المشكلة.

ألغيت اشتراكي بالأمبير لأن تكاليفه مرتفعة، واشتريت بطارية عملاقة مع جهاز Inverter بمبلغ $١٣٠٠ دولار. الهدف كان أن تشحن هذه البطارية على كهرباء الشركة خلال هذه ال٤ ساعات التي تأتي بها وأتخلص من احتياجي إلى السطح وإلى جاري المقيت بالكامل، فالبطارية عملاقة (٣٠٠ أمبير) وتكفي للمنزل لمدة ١٤ ساعة إلى أن تأتي كهرباء الشركة فتشحنها مرة أخرى، أو هكذا بدا لي.

في البداية عملت الحيلة، لكن البطارية لم تلحق أن تشحن بشكل كامل خلال ساعتين نظرًا لحجمها. وبالتالي كان علي تقليل استهلاك الكهرباء حتى تدوم وقتًا أطول، فاضطررت إلى فصل البراد ووصله عندما تأتي كهرباء الشركة فقط حتى أتمكن من العيش في هذا الصيف الملتهب مع مروحة واحدة فقط وإنارة وحاسوب، وهو بدوره ما أدى إلى أزمة أخرى.

الآن لم يعد بإمكاني الطبخ في المنزل إلا بصعوبة بالغة، فالبراد لا يمكنه تبريد اللحوم ولا الخضار لأنها ستفسد في هذا الصيف. وفوقها أنا مصاب بداء السكري، فلا يمكنني أن آكل أي طعام بل أحتاج طعامًا خاصًا، وكوني أعيش وحيدًا فلا يوجد من يتحمل هذا الأمر عني بل عليّ كل يوم أن أحضر الإفطار والغداء الكافي لليوم التالي وإلا فلن آكل… وهو ما يعني أن علي الذهاب يوميًا عدة مرات إلى الأسواق حتى أشتري الطعام، وهو بدوره ما يضغط عليّ ماديًا فالأكل من الخارج مكلف للغاية…

بدأت البثور والجروح تظهر في قدميّ من كثرة المشي والحرارة، يبدو أنني بحاجة لحذاءٍ جديد، لكن علينا تأجيل هذا إلى الشهر المقبل.

مرت أيام عديدة حصلت بها أعطال من شركة الكهرباء ولم تأتِ هذه الكهرباء من الشركة، فظلت بطاريتي دون شحن. وهكذا قضيتُ أيامًا تحت درجة حرارة ٤٢؛ دون مروحة، ولا براد، ولا ماء بارد… هكذا في المنزل دون كهرباء في حر الصيف لأيام وراء الأيام. كان شعوري ويكأنني في قبر محاط بالنار من كل مكان، والعرق يسيل من كل ذرة من ذرات جسمي، ولا شيء في الدنيا يمكنني أن أفعله.

لأيام وراء أيام، أغتسل بالماء البارد ثم أبدأ بالتعرق بعد ١٠ دقائق، فلا يغني عني شيئا، وتعود الحرارة والعرق كما كان… الحرار ٣١ ليلًا، وبلا أي وسيلة تبريد، فكان من الصعب أن أنام أصلا فصرت أنام مجبرًا بشكلٍ متقطع لمدة ساعة أو ساعة ونصف، ثم أستيقظ وأمسح عن وجهي وجسدي بالمناديل، ثم أعيد محاولة النوم إلى وقت الفجر. كل بطانياتي مبتلة بعرقي.

عادت كهرباء الشركة فتمكنت من شحن البطارية، وحصل عطل بسيط فأحضرت نفس الشخص الذي ركب لي البطارية والInverter لينظر فيه، فكانت المفاجأة أن العبقري قلص نسبة شحن البطارية إلى ٣٠ بدل من ٧٠، وهذا هو السبب الذي من أجله لا تلحق البطارية أن تشحن خلال الساعتين، فرفعناها إلى ٧٠ وصارت تشحن بنسبة جيدة جدا حتى لم أعد مضطرًا إلى فصل الكهرباء عن البراد، وهكذا صار عندي براد ومراوح وأشياء أخرى! أو هكذا ظننت أيضا مرة اخرى…

لم تدم أيام حتى حصل عطل في كهرباء المبنى الذي أسكنه، فصارت الكهرباء لا تأتي أصلا من الشركة. أغلب سوريا تأتيها الكهرباء لعدد معين من الساعات إلا المبنى الذي أنا فيه…

منظومة الطاقة موضوعة عندي على التحويل لكهرباء الشركة متى ما جاءت، لكن بما أنه بها خلل وتأتي على شكل ١٢٠ فولط أو ٨٥ فولط أو ١٦٠ فولط (على حسب تذبذب الأسلاك) فإن الجهاز عندي يكاد يتعطل ويخرج صوتًا قويًا واهتزاز عندما يحصل هذا، فأستيقظ من نومي فزعًا الساعة ٣ صباحًا لأنقذ منظومتي الكهربائية قبل أن تحترق… الآن لم تعد تأتي بالكلية، ويبدو أن هذا السلك المتذبذب قد مات بالكلية.

اتصلت على الشركة وبلغتهم منذ أسبوع عدة مرات، ولم يأتِ أحد.

قد يكون مجرد عذابٍ صغير آخر، لكن أي عذابٍ هذا أن ترى من يجاورك ومن أمامك عنده كهرباء وكل وسائل الحياة، وأنت بالتحديد محروم منها؟ أن تسمع صوت المكيفات والمراوح لجيرانك في المبنى الملاصق لك وأنت نائم، بينما لا تأتيك الكهرباء أصلا وتنام في الحر والعرق تحت درجة حرارة ٤٢ وأنت تلتهب؟ أن تعلم أن جارك الذي فوقك حارمٌ لك من أبسط حقوقك وهو يتنعم بالمكيفات والماء العذب؟

لأجهزة الinverter هذه التي يركبونها عندنا صوت عندما تأتي الكهرباء وعندما تذهب… وهكذا، أستيقظ في الخامسة فجرًا لأرى الكهرباء عند الجيران، وأنتظر قليلًا لأسمع صوتها وهي تودعهم، بينما لم تطرق بابي أصلًا من بين كل البيوت.

الآن سيفسد اللحم والخضروات والفواكه التي اشتريتها، فعندما اشتريتها كنتُ ظانًا أن مسألة الكهرباء والبراد قد حُلت، لكن تبين عكس ذلك. أشاهد مالي وهو يتلف أمامي ولا أستطيعُ شيئا… تكرر هذا الأمر عدة مرات على مدار ال٧ أشهر.

كانت المياه لتكون عذابًا صغيرً آخر، لولا أن من الله علي بأن أعيش في مكان مركزي في حلب فلا تكاد تنقطع عنا المياه لأننا على خط توزيع جميع الخطوط، وإلا فالناس الآخرون تنقطع عنهم المياه لمدة ٤ أيام و٥ أيام، ولا تأتي سوى مرة في الأسبوع. انقطعت المياه مرة عنا نحن لمدة ٧ أيام وأعتقد أن هذه كانت المرة الوحيدة التي فكرت فيها بالعودة إلى تركيا فالمياه هي الشيء الوحيد الذي لا أصبر عليه.

كما ترى، هناك عذابات صغيرة متنوعة لكل إنسان على حسب مكان سكنه في هذه البقعة الجغرافية، وما يصبر عليه إنسان قد لا يصبر عليه آخر…

قبل أيام أصلح الجيران خط هاتفهم فقطعوا خط هاتفي الأرضي. أخبرتهم قبل أسبوع ولم يعودوا لإصلاحه، وهكذا ينضم الهاتف الأرضي إلى القائمة.

حاراتنا القديمة هذه في حلب مليئة بالحشرات وتحديدًا الصراصير، أعتقد أنني قتلت نحو ٢٥ صرصورًا هذا الصيف في منزلي، وهم يأتون من كل الغرف؛ من المطبخ والحمام والشرفة، ثم ينتشرون في أنحاء المنزل.

اتخذتُ احتياطات لتقليل وصولهم وسد المنافذ التي يدخلون منها، ورششت مبيداتٍ كيماوية الله بها عليم، لكنني لا أزال أرى واحدًا منهم كل أسبوع، وهكذا فوق انقطاع الكهرباء والإنترنت والحر اللاذع فعليّ أن أكافح هذه الحشرات كذلك.

الإنترنت قصة منفردة. عملي كله على الإنترنت، فأحتاج اتصالًا سريعًا وباقة مفتوحة لأدائه بكفاءة، لكن في حلب لا يوجد اشتراكات جديدة أصلا منذ سقوط النظام. يروجون لهذا النت الهوائي لكن تكاليف تركيبه خرافية تبلغ نحو $٢٠٠ دولار ثم عليك أن تدفع ١٥ دولار شهريا لسرعة تحميل ٤٠٠ كيلوبايت. حاليا ليس عندي إلا إنترنت خلوي بباقة ٥٠ جيجابايت تكلف ٨$ بالشهر، لكن الإنترنت الخلوي بطيء هو الآخر وينقطع لأيام، فتمضي أيام من عمرك دون أن تفعل شيء.

على سيرة العمر، بلغتُ ال٢٨ من عمري ولم أتزوج إلى اللحظة، ولا أدري إن كان قريبا. كان يمكنني التخلي عن كل هذه القضايا والمطالب وأعمل منذ يوم تخرجي من الجامعة كموظف عادي وأرمي هذا وراء ظهري.

يمكنني حل كل هذه العذابات إن شئت ليس بكبسة زر، بل بمحض إرادة من داخلي.

أنا أحمل الجنسية التركية، فيمكنني ببساطة العودة لتركيا والجلوس عند أهلي هناك وعدم خوض أي عذاب من هذه العذابات. على عكس أغلب السوريين في تركيا، فيمكنني العودة إليها متى شئت كونها بلدي بموجب القانون كذلك، فتنتهي كل هذه المعاناة في نصف ساعة.

ومع ذلك لا أفعل.

كل هذه عذابات صغيرة، وأظن وأعتقد شخصيًا أنها تافهة وسخيفة مقارنةً بما ضحى به المجاهدون، وما فقده الناس من أب وأم وأخ وأخت وأولاد…

كل هذا لا يساوي شيئا أمام معاناة أهل الداخل الحقيقيين الذين ظلوا يُقصقون ١٣ سنة خلف بعضها دون أن يهتم لأمرهم أحد، أو سجين خسر ٧ سنوات من عمره أو مصاب فقد يده أو رجله أو عينيه…

أريد أن أعيش مع هؤلاء، وأحشر مع هؤلاء، على كل الغبرة والأثرة التي فيهم… أحتسب أنه حتى مجرد شراء حاجياتي منهم وصرف أموالي بينهم صدقة في سبيل الله بدلًا من أن أصرفها في بلاد الكفار بالخارج.

أحتسب أن مجرد عيشي هنا، وفعل ما أمكنني لتقوية شوكة المسلمين = صدقة.

سأظل هنا حتى يأتي الوقت المناسب الذي يستعملني فيه الله في المكان المناسب.

لكن لا ألفينّ سفيهًا بعد 100 سنة يأتي ويقول أن أهل السنة لم يضحوا، ولم يصبروا، أو أن السوريين في الخارج خذلوا من في الداخل…

أو أن أهل الملل الأخرى من نصارى ويهود ودروز ونصيرية وغيرهم كانوا أصبر منا، أو يمكن لهم أن يتحملوا ربع ما تحملناه.

أو أن لا أحد من أولئك المنعمّين منهم آثروا بناء بلدهم والتضحية من أجله على زينة الحياة الدنيا…

هذا مقال للتاريخ، أسجله حتى لا يتسلق متسلق على معاناة المسلمين وصبرهم وتضحياتهم يومًا ما.

يوم من أيام الله

كانت أول مظاهرة أشارك فيها – والوحيدة – بعد عامٍ بالضبط من بداية الثورة في 15 آذار 2012م، وكان عمري وقتها 14 عامًا.

جئتُ لأخرج من المنزل فسألني أهلي – وهم يعلمون أنه ستكون هناك مظاهرة كبيرة ذاك اليوم في الجامع الأموي بحلب – إلى أين تذهب؟ فكذبتُ عليهم وقلت أنني ذاهب لشراء بعض السيديات (CDs) من الجميلية (مركز المدينة في حلب)، وما أن خرجت من المنزل حتى أخذت سيارة تاكسي إلى الجامع الأموي الكبير.

كان هناك تواجد لقوات الأمن والشبيحة خارج المسجد وبيدهم أسلحة، وكنّا نراهم ونحن داخلون.

دخلنا وصلينا صلاة الظهر ولم يحصل شيء، فحملتُ حذائي وتوجهتُ مع بقية الناس إلى الساحة الداخلية في المسجد.

وإذا بشاب في العشرينيّات أو الثلاثينيّات من عمره، من وسط كل هذه الحشود، وعلى بعد أقل من 5 أمتار منّي، يصرخ بأعلى صوته: تكبيييير!

والناس تردد وراءه: الله أكبر!

تكبير! الله أكبر! تكبير! الله أكبر!

هكذا وما أن مضت دقيقة واحدة، حتى بدأ الشبيحة في الخارج يطلقون النار في الهواء ويغلقون أبواب المسجد حتى لا يخرج أحد من المتظاهرين.

خفتُ وقتها لأنني لم أرى ما يجري بالضبط؛ ويكأن الشبيحة كانوا سيدخلون المسجد ويعتقلون بعض الناس، وأنا بيدي حذائي، فركضنا إلى مصطبة داخلية في المسجد وجثوتُ عليها بركبتيّ للصعود عليها محاولًا الهرب للابتعاد عن مصدر الرصاص.

ثم خرج الشبيحة للخارج وبدؤوا بإغلاق الأبواب.

كانوا بمجرّد محاولة إغلاق بابٍ واحد، ينقض عليهم جماهير المتظاهرين ليحاولوا منعهم من إغلاقه.

يُغلق باب من أبواب المسجد (وأبواب الجامع الأموي بحلب كثيرة وحجمها هائل)، فيهجمون على الباب المفتوح ليسابقوا الوصول إليه.

أغلق الشبيحة جميع أبواب المسجد وبقيت المظاهرة في الداخل، وأنا أتظاهر معهم.

كان عددنا يومها نحو ألف متظاهر فقط؛ بعد عامٍ من بداية الثورة، وبعد هذا التحشيد الكبير لهذه المظاهرة على جميع صفحات الثورة، لم يحضرها سوى ألف شخص فقط.

للوهلة الأولى من المظاهرة لم أستطع أن أنطق، فهولُ المشهد وما رأيته للتو، وخوفي للحظات من الاعتقال، مع صغر سنّي وقتها، جعل قلبي ينبض بقوّة إلى أن عدتُ إلى مكان الصلاة في المسجد.

رأيتُ المصلين الذين لم يتظاهروا مع الناس وهم جالسون، وبدا لي ويكأنهم من “المنحبكجية” (مؤيدوا النظام) وقتها، ولم يكن واحدٌ منهم يتكلم بكلمة؛ فالمتظاهرون بالخارج واقفون ويهتفون وهؤلاء جالسون بالداخل.

عدتُ إلى المتظاهرين في الخارج بعد دقائق وهم يهتفون: لبيّك، لبيّك، لبيّك يا الله. وأنا أهتف معهم.

وكان النساء معزولين عن الرجال؛ فكان الرجال يأخذون أغلب المكان بينما تقف النساء في الوراء متجمعات لوحدهن.

وقد أطلق واحدٌ من المتظاهرين النار في الهواء من مسدس كان يحمله، فعلمنا أنه مع بعض المتظاهرين مسدسات كذلك إن احتاج الأمر.

إلى الآن المظاهرة مستمرة، ونحن عالقون في الداخل والشبيحة كلهم في الخارج بانتظارنا… والأعلام الخضراء، أعلام سوريا الحرة، في كل مكانٍ في المسجد بل إنّ هناك من صعد ورفع العلم الأخضر على سور المسجد.

استمر الوضع لوهلة حتى فتح المتظاهرون بابًا خلفيًا في الجامع الأموي بحلب كان يؤدّي إلى الأسواق القريبة منه، وكان هذا الباب عادةً مغلقًا ولا يدخل أو يخرج منه أحد. فتحوه وقسّموا الناس إلى رجال ونساء: الرجال من هذا الطريق والنساء من ذاك الطريق الثاني.

وكنتُ أريد أنا الذهاب من هذا الطريق الثاني، لأن هذا هو الذي أعرفه وأعرف إلى أن يؤدي، أما ذاك الطريق الأول فأنا لم أسلكه في حياتي.

المتظاهر الذي كان ينظّم الموضوع أعاد الجملة على مسمعي ثلاث مرّات حتى مشيت: الرجال من اليمين والنساء من اليسار، الرجال من اليمين والنساء من اليسار… حتى حملتُ نفسي أخيرًا ومشيتُ من اليمين، تحت ضغط أنه لا يصح أن أمشي في طريقٍ تمشي منه النساء 🙂

وبمجرّد أن خرجتُ من الجامع واختلطنا ببعض الناس الآخرين وشيءٍ من السوق والدكاكين… بدأ قلبي ينبض بقوة، حتى أن رجلاي كادتا ألا تحملاني، وكدتُ أسقط على الأرض.

قال صلى الله عليه وسلم: إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطانٍ جائر، وقال: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

إلى الآن أذكر كيف أن تفكيري كان وقتها: يا الله، هل دخلتُ في هؤلاء؟ هل حصلتُ على واحدةٍ من هذه الخصال تكفيني إلى آخر عمري؟

كان قلبي ينبض بقوّة لدرجة أنني جثوتُ على الأرض لوهلة لألتقط أنفاسي، ووضعتُ يدي عليه محاولًا تهدئته، وبقيتُ هكذا لخمس دقائق.

مشيتُ وإذا بواحدٍ من شبيحة النظام السوري بزيّه العسكري أمامي، وهو يحمل كلاشينكوف بيده، ويشتم ويصرخ في الشارع. خفتُ بأن يعرفني من المظاهرة أو أنني كنتُ معهم فيعتقلني، لكنني مشوتُ بجانبه دون أن أبدي أي ردة فعل ويكأنني شخصٌ عاديّ كبقية الناس. والحمد لله لم تحصل مشكلة.

حتى حملتُ نفسي وعدتُ إلى البيت.

حصلت أحداث كثيرة أخرى بعدها، منها اليوم الذي كدتُ أموت فيه برصاص قنّاص أطلق النار عليّ، وبعد سنةٍ أخرى من هذه المظاهرة خرجنا من سوريا إلى تركيا لتبدأ قصة اغتراب استمرت نحو 11 سنة؛ وخروجنا المبكر هذا كان لأن بيتنا في حلب قريب من فرع المخابرات الجويّة التابعة للنظام فكانت المنطقة كلها متوترة حولنا.

اليوم؛ كل هذا قد زال.

أولئك الشبيحة الذين كانوا ينتظروننا ويعتقلوننا، وفرع المخابرات ذاك الذي كان ينكّل بنا، بل هذا النظام الذي كان جاثيًا على صدورنا… قد زال من كامل تراب سوريا ولله الحمد.

لقد أزالهم الله، ولأول مرة منذ نصف قرن… اليوم، سوريا حرّة.

13 سنة عانت فيها ثورة سوريا وثوّارها الويلات، وخانها القريب قبل البعيد… واليوم تنتصر بنصر الله رغمًا عن أنوفهم، ويفرّ المجرمون كالجرذان من البلاد.

إنّه يومٌ من أيام الله.

الحمد لله، والله أكبر.

عن أهمية امتلاك صوتٍ عالمي

ضع في بالك وبينما تعمل المشاريع لدعم الويب العربي ونفع الأمة الإسلامية والمساهمة بما لديك من علمٍ أنه من الضروري كذلك للأمة أن يبقى لديها صوت عالمي (بالإنجليزية وربما غيرها من اللغات بدرجة أقل) في مختلف المجالات كذلك. سواء كان الكلام عن السياسة أو التقنية أو علوم الاجتماع أو الهندسات وغيرها من العلوم، من المهم ألا تبقى أمتنا محصورة بجلّ قوتها ومخرجاتها باللغة العربية فحسب.

أحداث غزة الأخيرة خير شاهد على ذلك، ولولا مساهمة آلاف الحسابات والقنوات الأجنبية بنشر القضية لربما كان الوضع ليكون أسوء مما هو عليه. هناك خذلان كبير غير مسبوق في التاريخ طبعًا وما قُدِّم لم يكن شيئًا يذكر لأهل غزة المكلومة، لكنه مع ذلك تسبب في حراكٍ كبيرٍ على الساحة الأجنبية مثل حراك طلبة الجامعات الأمريكية، وكشف تمويل السياسيين من منظمة آيباك الصهيونية، وجعل أوراق المغضوب عليهم تتحرّك في أصقاع الدنيا وتنكشف عنها أوراق التوت، بل لربما لتكون غزة سبب خسارة بايدن للانتخابات. ولهذا تداعيات اجتماعية كبيرة على المستقبل البعيد حتى بين ملل الكفر نفسها.

مبادرة Tech for Palestine مثلًا يقوم عليها شخص إيطالي غير مسلم، ومجموعة كبيرة من النشطاء الأجانب الذين ينسقون العمل بينهم على موقع Discord. هذه المبادرة لوحدها مسؤولة عن عشرات المشاريع الإعلامية والتقنية الأخرى الضاربة لمصالح الاحتلال في كل مكان.

لكن الأمر لا ينحصر في السياسة، بل حتى في الأمور التقنية مثلًا وغيرها فنحنُ بحاجة إلى ذلك.

عندما أنشر على FOSS Post مقالةً عن ضرورة التخلي عن نظام مايكروسوفت ويندوز والانتقال إلى البرمجيات مفتوحة المصدر، ثم يقرأ هذه المقالة آلاف الناس وتترجم إلى العديد من اللغات منها اليابانية، وتتصدّر المواقع النقاشية الأجنبية مثل هاكرنيوز وريديت، فإنني هنا أسدد ضربة ملموسة لشركة أجنبية كبرى بأدنى جهد. حتى لو استمع إليّ بضع نفرٍ من الناس، فهذا تأثيرٌ ملموس ويتوالد ويتضاعف مع مرور الزمن فكل واحدٍ منهم سينقل الفكرة لغيره.

هذه الشركات التي لم تتوانى عن دعم الاحتلال وفتح المراكز التقنية والبحثية فيه، أقل القليل الذي نفعله هو أن نضرب مصالحها عبر هذه الخطوات.

ولتفعل ذلك فلا بد أن يكون لديك صوت، مهم كان نوع هذا الصوت: موقع إنترنت، حساب تواصل اجتماعي مشهور عليه آلاف الناس، قناة يوتيوب يتابعها المئات، حساب لينكدإن لديك فيه الكثير من التواصلات… أي شيء يمكنك من خلاله التواصل مع جمهور هؤلاء الأعداء ونشر الرسائل التي تريد نشرها دون أن تخبرهم مباشرةً بذلك.

لا يعرف الكثير من الناس أن بعض الحسابات المشهورة على تويتر مثلًا يسيطر عليها هنود، ويحاولون بين الحينة والأخرى نشر أخبارٍ إيجابية عن بلدهم وجعل هؤلاء المتابعين يهتمون بها وبسياساتهم. هذه الحسابات من بينها مثلًا:

تنشر هذه الحسابات معلوماتٍ عامة حاليًا ولا تتبع خط نشر معيّن (وإن كانت تنسخ المنشورات بشكلٍ واضح من بعضها البعض)… إلا أن اللحظة المناسبة لاستعمالها من أي مؤثّر خارجي سيكون وقت الحروب والمشاكل السياسية، فستجد وقها فجأة أن الصوت الهندي عالٍ وفي كل مكان لامتلاكهم حساباتٍ مشهورة كهذه.

في مجالي وحده المرتبط بنظام لينكس والبرمجيات مفتوحة المصدر، أكثر من 50% من المنافسين والمواقع الأخرى هي لأشخاص هنود. لديهم شبكات من المواقع وليس موقع واحد فقط لكلٍ منهم، ويستعملونها لدعم بعضهم البعض والتصدّر على نتائج البحث مثلًا.

هذه قنبلة موقوتة تكبر شيئًا فشيئًا مثلًا، ولا أحد يعرف عنها.

وهذا وأنا لم أتطرق إلى تغلغلهم في مراكز صناعة القرار الغربية، ووسائل الإعلام، والمدونات ودور النشر، وغير ذلك.

فهذه دعوةٌ للقادرين على افتتاح المشاريع التقنية، وأصحاب الأعمال، والمتخصصين والمحترفين في مجالاتهم: ألا ينحصروا فقط بالنشر للجمهور العربي (وإن كان ذلك من أهم الواجبات)، وأن يحاولوا جهدهم لتشكيل قوى أكبر سواءٌ مع بقية الأمة الإسلامية من الأعاجم، ثم بقية عموم الناس على أي أرضية مشتركة يمكن البناء عليها ثم التأثير من خلالها على القضايا التي تهمنا.

حتى لو كان ما تفعله مجرد قناة يوتيوب أو حساب تلجرام أو موقع إنترنت أو برنامج مفتوح المصدر أو أي مشروع آخر… إنها تظل نوعًا من القوة طالما يمكنك استخدامها لنصرة دينك وإخوانك في أي وقتٍ لاحق، تلك القوة التي نحن مأمورون بتجميع جميع أشكالها وأنواعها حسبما استطعنا:

(وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ) [الأنفال 60].

عن نصر السابع من أكتوبر

لطالما آمنت أن هذه الأحداث التاريخية هي اختبارات وابتلاءات يُبتلى بها من لم يشهدها قبل من شهدها، ليُرى كيف يتصرف وكيف تكون ردة فعله وكيف ينصر إخوانه وكيف يكون إيمانه… انتبه أن تظنّ أن هذا ابتلاء لأهل غزة وحدهم، هذا ابتلاءٌ على كل واحدٍ فينا أيضًا؛ هل يستمر في نومه أم هل ينتبه ويستيقظ.

ما فعله المقاومون يوم 7 أكتوبر كان نصرًا مؤزّرًا.

أناس محاصرون لا يمكن إدخال شربة ماء إليهم دون إذن العدو منذ 17 عامًا، لا يكادون يمتلكون أرضًا كافية ليعيشوا عليها، قليلوا العدّة والذخيرة… ومع ذلك تمكّنوا من تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر بل وسحلوه أمام العالم في صورة لم تُسبق من قبل.

قتلوا 1300 فطيس منهم واعتقلوا نحو 220 أسير، في عملية لم تستغرق 7 ساعات.

لم يحس بهم أحد، كل هذه المليارات من الدولارات التي أنفقها الاحتلال على مدار السنوات لبناء الجدار الفاصل الذي كان يُظنّ عنه أنه لا يمكن لنملة أن تخترقه… كل هذا ذهب أدراج الرياح وتبيّن أنه أوهن من بيت العنكبوت. هناك فيديوهات تبيّن كيف أن جنود الاحتلال كانوا يحتفلون ويرقصون بينما فجأة باغتهم جنود المقاومة وأرسلوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا عملٌ لم تقم به الجيوش العربية مجتمعة لا في 48 ولا 67 ولا 73.

هل تفهم حجم الحدث وما رأيناه للتو؟ لقد رأينا أناسًا محاصرين بين الكهوف والتلال والمزارع، يفعلون ما عجزت جيوشٌ كاملة عن فعله لعشرات السنين.

كانوا يريدون عمل اجتياح برّي على غزة، وإذا بهم يكتشفون أن كتائب النخبة المُدرّبة على اقتحام غزّة هي نفسها الكتائب التي مسحتها المقاومة عن الخريطة في غلاف غزّة وأخذوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا القصف الجنوني على غزة والمجازر التي يرتكبها العدو هدفه أمرٌ واحد: محو الإنجاز والنصر الذي فعله الأبطال يوم 7 أكتوبر وجعل الناس تتحدث عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال والناس والضحايا والأضرار المادية… إلخ بعيدًا عن نصر أول يوم.

لا تسمح لهم بذلك، لا تغرق في وحل الحزن والأسى وتنسى النصر المؤزّر الذي حباه الله إخوانك.

تخيّل كيف يمكن لألف جندي فقط أن يتسببوا في كل هذه الأحداث على مستوى العالم، إلى درجة أن تحرّك أمريكا أكبر حاملة طائرات في الدنيا إلى شواطئ غزة، وأن تحرّك دول أوروبا بارجاتها الحربية إلى القرب من سواحلها، فقط تحسّبًا لوقوع دولة الاحتلال في مزيدٍ من الورطات. لقد خافوا عليهم إلى درجة أنهم ظنّوا أن دولتهم قد تزول فاضطروا إلى هذا التدخل الكبير والمباشر.

هذا نصرٌ تاريخي هائل، ودفعة قوية وإحياء وبعث للأمة الإسلامية لم يكن ليحصل لولا أنه حصل بهذه الصورة. لماذا؟ لأنه يدفعنا جميعًا للتساؤل: إن كان هذا الاحتلال الجاثم على صدورنا، والذي يحوّل جميع دول المنطقة إلى عملاء وخونة ومنافقين لأجل حمايته ويقرف حياتنا عن عمد من أجل ذلك… إن كان هذا الاحتلال أوهن من بيت العنكبوت إلى درجة أن ألف رجلٍ فقط قادرون على الفتك به وتشريد أهله، فكيف ونحن أمة المليارين مسلم لا نقدر على فعل أكثر من ذلك؟

لطالما كنتُ أحلم بكيفية التخلص من التفوّق التقني لأعدائنا علينا، وكيف أنه ربما يمكننا إيجاد وسائل وآليات تقلّص هذا الفارق في وقتٍ قصير بفضل توفيق الله لنا، كما قال الشيخ أحمد الحرّاني رحمه الله: أن الله يؤيد عباده المؤمنين وينزل عليهم بركاته لكي يتعلّموا ويعرفوا ما يدركه الكافرون من علوم الدنيا في قرونٍ، يهبهم الله إيّاه في سنواتٍ قليلة من الاجتهاد”… وها أنا ذا أراه أمام عينيّ: مناطيد مربوطة بمراوح عملاقة، مصنّعة محليًا وتبدو أنها مجرّد خردة حديد ملحومة مع بعضها، لتجاوز الجدار العازل الإسرائيلي صاحب الأساطير!

درستُ قبل أشهر تفسير سورة العنكبوت، وانبهرتُ بتفسير قوله تعالى: “مثلُ الذين اتخذوا من دونِ الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإنّ أوهن البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ لو كانوا يعلمون”. هذا تشبيهٌ لا أبلغ منه للمشركين الذين ظنّوا أن اتخاذهم معبودين من دون الله سيقرّبهم إلى الله، وأنه سيحميهم ويقويهم في الدنيا… وإذا بالواقع على العكس من ذلك: المشرك أكثر الناس خوفًا من الآخرة وأكثرهم خوفًا من الموت، لا يستجيب شركاؤه الذين عبدهم من دون الله له، بل على العكس أيضًا من ذلك، يبعده ذلك عن الله أكثر فأكثر، وهو يظن أنه في غاية الحماية والمنعة. مثله كمثل العنكبوت التي تظنّ أنها تبني بيتًا لنفسها من الخيوط لتعيش عليه، وإذا بأقل دفعة هواء أو رشّة ماء أو خطوةِ حيوانٍ ينهار بيتها على رأسها بالكامل ولا يعبئ أحدٌ بها ولا ببيتها.

هذا هو حال المشركين الذين يعبدون أحدًا من دون الله: يظنون في أنفسهم المنعة والقوة، وإذا في الواقع بنياهم كبيت العنكبوت ينهار بأقل مقاومة ومدافعة، وبأقل تقديرٍ من الله.

إخواني فليستمدّ الواحد منّا بعض هذه النفحات الإيمانية التي قد تكفيه طيلة عمره. هذه الأحداث التي ينصر فيه المؤمن دين ربّه ثمّ إخوانه المؤمنين وفق أمر ربّه هي هبات ربانية على الإنسان أن يتفطن لها ويجمعها في حياته وكأنه يجمع قطعًا من ألماس.

لا أحد مطالبٌ بتحقيق نتائج وثمرات واقعية فهذه على الله سبحانه، لكن كل امرءٍ عليه من العمل ما يقدر عليه. هل تفهم ما أقول؟ هذه الأعمال هي من أجلك أنت وليس من أجلهم. إنها أمورٌ تملء بها صحيفة حسناتك، وتقيك من النفاق الأكبر، ودليلٌ أمام ربّ العالمين على حياة قلبك وانحيازك لأمّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

ما تفعله ليس من أجلهم، ولا لأجل أحدٍ من الناس، إنه لأجلك أنت.

ويكأن الله سبحانه يبارك ويوفّق الإنسان بقدر ما يشتعل الإيمان في قلبه في هذه الأحداث.

كلنا نحزن للمجازر والمصائب التي تنزل بأهلنا في غزّة، والقصف المستمر وانقطاع المياه والدواء والغذاء والكهرباء وغير ذلك… لكن لا تدع ذلك يسيطر عليك، فهذا هو ما يريده العدو منك. لا تجعل مراقبتك واهتمامك بهم سلبيًا متفرجًا، بل تأمّل في النصر المؤزّر الذي حصل في أول يوم، وتبعاته وثمراته التي ستجني الأمة الإسلامية ثمراتها إن شاء الله لسنواتٍ مقبلة، فقط على أيدي بضعة نفرٍ محاصرين متابعين مطلوبين في بقعةٍ جغرافية لم يكن يظن أحد أنها قادرةٌ على ذلك.

لا تكثر من النشر عمّا يحصل لغزة الآن، دون أن تنشر عن النصر العظيم الذي حصلت عليه في ذلك اليوم.

ما حصل يوم 7 أكتوبر، سيتكرر في مراتٍ كثيرة، ولم يكن بعد هزيمة السحرة مجتمعين أمام عصا موسى سوى شقّ البحر.