هذا أمرٌ للأسف منتشر انتشارًا كثيرًا.
تجد الإنسان يريد أن يتخصص في مجالٍ فرعي من مجالات العلوم كالهندسة أو الطب أو الفيزياء وغير ذلك، ثم لا يعبئ بأي شيءٍ يحصل في الدنيا. لا يريد متابعة أي شخص يكتب تغريدة واحدة عن السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الدين، بل كل ما يريده هو محتوى مرتبط بتخصصه ومجاله فقط.
لا تدخل معه أبدًا في نقاشات عن مواضيع خارج ما يعمل من أجله كل يوم، فقد يصاب بهيستيريا أو حالة صرع.
هو منشغلٌ بالتصميم أو البرمجة أو التدوين أو الذكاء الاصطناعي أو الفيزياء أو العلوم، فقط، وكل شيءٍ خارج عن هذا هو أمرٌ يسبب له القلق ويعتبره بحاجة للتخلص منه.
لا تحاول أن تخبره أن عليه واجبًا شرعيًا أن يربط بين المعارف التقنية التي اكتسبها وبين ما تحتاجه أمته من خبرات، فقد يصفك مباشرة بالتطرّف.
يا ترى ما الذي يدفع الناس إلى ذلك؟ نعم ليس هناك مشكلة في أن يكون لديك تخصص أنت مهتم به وتتابعه بشغف واستمرار، لكن أن تحصر حياتك ووجودك كله في الدنيا في هذا المجال فقط ثم لا تعبئ بأي شيءٍ يحصل خارجه فهذه حالة مرضية على الإنسان الخروج منها.
الكثير مما يحصل في السياسة والدين والاقتصاد والاجتماع وتغيّر المناخ وغيرها سيكون مما يمسّك أنت سواءٌ شئت أم أبيت. كونك مصمم لا تهتم سوى بالتصميم أو صانع محتوى لا يهتم سوى بالكتابة أو مبرمج لا يهتم سوى بالبرمجة أو بيولوجي لا يهتم سوى بالبيولوجيا لن يساعدك، بل على العكس، ستكون كالأطرش الذي لا يعرف ما يجري في الدنيا ولا خيار له سوى أن يُقاد مع بقية الجموع في بلاده.
الذي يدفع الناس إلى ذلك هو المال. ببساطة صرف المزيد من الوقت في التخصص أو المجال الفرعي وترك كل شيء خارجه هو أكبر ضمانٍ ممكن لجلب المال، فأنت تصرف معظم وقتك لتعلّم مجالك فحسب وتنسى كل الدنيا خارجه، وبالتالي هذا مدعاةٌ لجلب المنافع لك مع الوقت.
يركض الإنسان وراء المال وينسى كل شيء عدا عن ذلك.
وهذا وإن كان قبيحًا بالإنسان، كل إنسان، إلا أنه أكثر قبحًا بالإنسان المسلم. من المفترض أن يؤمن المسلم أن هذه الدنيا من أولها إلى آخرها هي مجرّد ساعة من نهار، اختبار سريع للإيمان أو الكفر والجواب إما بنعم أو لا، فكيف يهدر جلّ وقته في صناعات الدنيا وينسى ما هو أهم من ذلك؟
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس، 45]
كثيرٌ من هؤلاء المتخصصين أصحاب 70 ورقة بحثية منشورة في أرقى المجلات العلمية، لا يعرفون أحكام سجود السهو، ولا قرؤوا صحيح البخاري مرةً واحدة على الأقل في حياتهم. قد تجدهم يطلبون الحكمة في جبال الهند والصين، ثم يشمئزون من أكبر مصدر للحكمة في الكون.
وكثيرٌ منهم لا يعبئ بسفاح مجرم يحكم بلاده، بل على العكس قد يعتبرها فرصة شرف أن يقابله ويتقرّب منه، لعله يحصل منه على شيءٍ من لعاعة الدنيا؟ رحم الله الإمام أحمد كان يقول كل من يمشي مع الولاة والقضاة وسخ، وهذا على زمن المعتصم فكيف بالزمن الطيب الجميل الرائع الذي نحن فيه.
يجب على الإنسان أن يخلو بنفسه قليلًا، ويفكّر أولًا فيما أعده لآخرته، ثم ينظر في الدنيا وموقعه منها، وكيف يمكنه عمل شيء لخدمة دينه وأمته.
أما أن يكون مجرد آلة تكنوقراطية، وظيفتها فقط جمع الجوائز العلمية والغرق بالتخصصات التقنية، مثله مثل أي كافر في الدنيا يتمتع ويأكل كما تتمتع الأنعام، فهذا لا شيء يبرّد قلبي فيه وبأمثاله سوى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه:
(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).
قال ابن باز في شرح الحديث:
ويقول ﷺ: تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة والقطيفة الذي يعمل لها من أجلها، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، لا يعمل للآخرة، ولكن يعمل للدنيا، فهذا دعا عليه النبي ﷺ بالتعاسة، وفسر هذا بقوله: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش سماه عبدا لها لأنه يعمل لها، يرضى لها، ويغضب لها، لا يغضب لله ويرضى لله، بل يغضب لما لم يحصل له من الدنيا، ويرضى لما حصل، فهو عبد الدنيا ليس عبدا لله، فالواجب على المؤمن أن يكون عبدا لله، وأن يستعين بنعم الله على طاعة الله، وأن يطلب المال من جهته الحلال، وأن يكون همه ما يرضي الله ويقرب لديه، وألا يكون غضبه للدنيا ورضاه للدنيا.
انظر اليوم في الناس، وستجد أن أكثر ما يولونه الأهمية في حياتهم هو المال والوظيفة، وكل شيءٍ يأتي بعد هؤلاء. ثمّ العجب كل العجب أن نفس هؤلاء الناس يشتكون من قلة البركة والأيام الصعبة، والكوارث البيئية وتقلب المناخ وأن “الناس الطيبة لم تعد موجودة”.
توقف للحظة من حياتك واعرف أن الدنيا ليست مجرّد العمل الذي تقوم به فيها، بل هي حرث آخرتك التي ستبقى فيها إلى أبد الآبدين، فاحرص على أن تستعمل ما يقع بيدك منها فيما يوصلك إلى تلك الغاية.
للأسف الشديد هذا هو الواقع المرير. أغلب الطلب و المتخرجين لا يهمهم شيء خارج اختصاصهم.
شكرا لهذه الإلتفاتة…صحيح لو جلست مع متخصص في مجال معين تجده لا يعطيك الفرصة للتكلم، أما إذا خرجت عن التخصص تجده صم بكم.وربما تجده ممن يجدون مهارة المغالطات المنطقية حتى يعود إلى تخصصه، إلا من رحم ربك.
لا تدري اي موقع وقع فيه كلامك في قلبي في هذا الوقت المتاخر من الليل
جزاك الله عنا خير الجزاء
جاء في كتاب خلق المسلم للشيخ محمد الغزالي ما يوافق هذا الكلام.
“وليست دراسة الحقوق والقضاء أشرف في ذاتها من دراسة الطبّ مثلاً. ولو بلغ صاحبها مبلغ أبي حنيفة، وإنما يرجح الرجل صاحبه في علمه بمقدار ما يُسَخّر هذا العلم لنفع الناس ابتغاء وجه الله، وانتظار ما لديه من مثوبة”
نقل نفيس، الله يعطيك العافية.
الله يبارك فيك.
نسأل الله أن يستعملنا لنصرة دينه