المدونة الشخصية

عن الرصاصة الرابعة التي لم تأتي: يوم كدتُ أن أموت

قبل 7 سنوات وعندما كنتُ في سوريا – حلب، وعندما كان عمري 15 عامًا، اضطررنا لمغادرة منزلنا بسبب الاشتباكات بين قوات النظام والمعارضة. لكننا احتجنا أن نعود لجلب بعض الأشياء الثمينة.

ظهرت فجأة عربة BMP تابعة لقوات النظام بينما كنتُ أمشي في شارعٍ مفتوح، وكانت تقترب من مدخل المبنى الذي كنتُ أقف بجانبه. لم أدرك وقتها أنّه في داخل هذا المبنى كان يوجد جنودٌ جرحى تابعون لقوّات النظام، وكانت عربة الـBMP تلك تحاول إنقاذهم، بينما كان هناك قنّاص تابع لقوات المعارضة يتصيّد كل ما يتحرّك في المنطقة.

فجأة بدأ القنّاص بإطلاق النار عليّ، أطلق 3 رصاصات، واحدة منها أصابت الشجرة التي كنت أختبئ تحتها واثنتان مرّتا من يميني وشمالي وعلى مسافةٍ أقل من 50 سنتيمتر. لم تصبني أيٌ منها. كان المخرج الوحيد للهروب هو الركض عبر ممرٍ مفتوح يمكن للقنّاص أن يراني عبره، فركضتُ من هناك.

كانت هناك تلك اللحظات التي تشعر بها ويكأنّها ساعات، لحظات كنتُ أنتظر بها الرصاصة الرابعة لتأتي وتنهي حياتي هذه المرّة، لكن هذه الرصاصة الرابعة، والحمد لله، لم تأتي.

بعد شهرين، خرجنا من سوريا لتركيا. واليوم وبعد ساعةٍ واحدة فقط من تاريخ كتابة هذه التدوينة، تكون حفلة تخرّجي كمهندس وعالم حاسوب من أحد جامعات اسطنبول المعروفة، وبمرتبة الشرف.

حصل الكثير خلال هذه السنوات، ومعجزات أخرى لا مجال لسردها اليوم، لكن شيئًا واحدًا ظللتُ أفكّر فيه طوال تلك المدّة – ولا أزال – هو الموت. كان يمكن لكل أحلامي وطموحاتي ومشاريعي أن تنتهي مع تلك الرصاصة الرابعة، وأنضم إلى قافلة المليون قتيل في سوريا منذ اندلاع الحرب. لم تأتي تلك الرصاصة إليّ، لكنّها أتت إلى الكثيرين غيري، وكنتُ أتساءل يا ترى لماذا لم تأتي إلي بينما أتت إلى غيري؟ يكاد الفضول يقتلني عن الحياة المُقدّر لي عيشها والأشياء التي سأفعلها، وهل سأموت غدًا أم بعد 20 سنة.

خلال كل تلك السنوات، لا يسعني سوى تذكّر نعم الله وفضله وعطائه وكرمه عليّ. وأنّه لولاه لهلكت وانتهت حياتي قبل أن تبدأ حتّى. اليوم، لي مشاريعٌ عديدة تقنية وسياسية ودينية تصل لعشرات الآلاف من الناس شهريًا، كل هذا، لأن تلك الرصاصة الرابعة لم تأتي. أمزحُ كثيرًا مع بعض أصدقائي عندما يسألوني: “كيف أنت اليوم”؟ وأقول لهم: أنا “عايش”.

من أجل هذا ردّدتُ أكثر من مرّة أن أحد أكبر دوافعي إلى الأمام في الحياة هو الموت. طالما أنّك تعلم أنّك ستموت لا محالة، وقد تموت غدًا فجأة بحادث سيّارة، أو بعد 20 عامًا بالسرطان، فحينها من الأفضل أن تحاول إنجاز الأشياء التي تريد إنجازها قبل أن تموت بسرعة. ولكننا نحن البشر، نكّارون للجميل ننسى ونعيش حياتنا كأن شيئًا لم يحصل بعد بضعة أيام.

لا يسعني هنا التفصيل في فضل مولاي وسيدي عليّ، فما حصل لي خلال هذه السنوات من رعاية الله وحفظه لي شيءٌ عجيب أنا نفسي لا أكاد أصدّقه. ومن رأى التفاصيل وعايشها ليس كمن سمع عنها من بعيد. لا أدري كيف يطيبُ لبعض البشر أن يتخلّوا عن الله؟ وكيف يستلذون بشرب الماء وهم لا يؤمنون بمن خلقه، ولا يعبدونه، وإن عبدوه أشركوا معه شيئًا ما.

الحمد لله، دائمًا وأبدًا.

تخلّصوا من عقدة افتتاح المدونات التقنية

ما أن يبدأ شباب اليوم في التدوين حتّى يفكّروا في افتتاح مدونة تقنية. ابحث فقط في أرشيفات المجتمعات العربية النقاشية على الإنترنت وستجد الجميع لا يهتم بشيء سوى التقنية والتقنية. أنا أفهم أن التقنية مجال رائع وفيه الكثير من الفرص بالإضافة إلى أنّ العمل فيه سهل نسبيًا، حيث لا تحتاج إلى شيء سوى حاسوب، لكن الموضوع “طفح عن حده” كما يقول إخواننا باللهجة المحلّية فعلًا.

أرى كل يوم مجموعة مدونات تقنية جديدة كلّها مثل بعضها، “كيف تقوم بتثبيت البرنامج الفلاني”، “كيف تقوم بفرمتة ويندوز”، “10 إشاعات حول شكل الآيفون الجديد”.. يسعى أصحاب هذه المدونات إلى الربح السريع ويرون أن باقي المدونات والمواقع العربية الكبرى التي تجلب ترافيك تقوم بتغطية هذه المواضيع، فيقومون هم بتغطيتها كذلك وهذا خطأ. حتّى مع قيامك بنفس الشيء الذي يقومون به لن تصل إلى ما وصلوا إليه. وضع وإمكانيات المليونير ليس كمن لا يملك دفع إيجار المنزل.

السوق “مُشبع” بالمدونات التقنية. لا حاجة لنا بالمزيد من مدونات أخبار الهواتف والحواسيب المحمولة وغير ذلك. هناك 10000 مدونة عربية مثل مدونتك المجانية التي قمتَ بإنشائها على بلوجر أو ووردبريس، لماذا سنتابعك أنت المجهول الجديد ولدينا محتوى ومواقع وناس أفضل منك؟ وبالفعل، معظم هذه المدونات تستمر لبضعة شهور ثم يتم إقفالها.

كلامي ليس موجهًا لكل التفاصيل المنطوية تحت كلمة “تقنية”، وإنمّا أتحدث عن تلك المدونات العامّة. نعم نحن بحاجة إلى مواقع ومنصّات متخصصة مثلًا بتغطية البرمجة بلغة Go، أو متخصصة بلغة Rust، أو برمجة تطبيقات الآيفون، أو ووردبريس واستخداماته المتقدمة من الألف إلى الياء، أو استخدام خدمات AWS، أو مدونة عربية متخصصة بالذكاء الاصطناعي، أو المعالج الطبيعية اللغوية.. هذا ما يُسمّى “بالنيتش”، احرص على أن تختار جمهورًا ضيقًا تجمعه فكرة محددة بدلًا من أن تكتفي بعمل مدونة الخزعبلي للمعلوميّات وتنشر فيها سمك لبن تمر هندي ثم تلعن الإنترنت لأنّهم لا يدعمونك ولا يفتحون محتواك.

الآن هذا الشقّ هو المتعلّق بالتقنية وتفاصيلها، لكن عمومًا، المدونات التقنية بغض النظر عن تفاصيلها كثيرة بالفعل. الويب العربي لا يملك إلّا القليل من المدونات حول السياسة، الزراعة، الأدب، الهندسات، علم الفلك، علم الوجود، الدين، اللغة العربية، الكيمياء، الفيزياء.. هل فعلًا لا يثير أي مجالٍ في كل الدنيا اهتمامك سوى التقنية؟ لعل الموضوع حينها متعلّقة بشخصك وسوء فهم لهذا المجال أو إغفال لأشياء رائعة أخرى في الحياة كان يُمكن أن تبدع فيها بدلًا عن شروحات تفعيل ويندوز 10 باستخدام الكراك.

لحل هذه المشكلة، تخيل نفسك بعد 5 سنوات، هل كنتَ لتكون سعيدًا وأنت تعمل في نفس المهنة؟ تخيل نفسك وأنت بزوجة وأولاد، هل كنتَ لتكون مستعدًا لمتابعة العمل بهذا المجال (مهما كان)؟ وأنت على بعد ثوانٍ من وفاتك، هل كنتَ لتكون سعيدًا بما قدّمته في حياتك عن طريق هذا المجال؟ إن كان الجواب لهذه الأسئلة هو لا، فحينها أنتَ في المكان الخاطئ.

ابحث في TED عن تخصصات الناس وما يفعلون، أو انظر في التاريخ وكيف صنع الناس أمجادهم، أو لعلك تنظر في الواقع فترى ما نحن فيه فتبدأ مشروعًا يكون هو حياتك ووفاتك في نفس الوقت لتغيير هذا العالم.. الحياة أكبر من هواتف جالكسي أو لغة Go أو خدمات SEO أو ريادة أعمال.

تذكّر الإنسان الذي أمامك

من أسوء آفات التواصل الرقمي هو انسحاق خصائص التواصل البشرية فيها. في مجموعات الواتس آب الكل يحاول الظهور بمظهر الأستاذ الخبير الراشد ويحاول سحق أي رأي مخالف له بضراوة دون اعتبار لوجود إنسان في الطرف الآخر، في نقاشات فيسبوك الهُرائية الكل يحاول تسخيف وتحطيم مخالفيه وكتابة أي شيء لنيل الإعجابات، على مواقع النقاشات مثل Reddit الكل يكتب تعليقاتٍ ويكأنّ الكاتب هو عبارة عن “حساب” يقوم بكتابة تعليق، وليس إنسانًا يستخدم ذلك الحساب ليكتب. حبّ تعظيم الذات موجودٌ دومًا على منصّات التواصل الاجتماعية هذه.

تذكّر دومًا أنّك على الإنترنت لا تتعامل مع حسابات، بل تتعامل مع بشر. تخيّل كاتب التعليق المُخالف لك وهو يقف أمامك وتخيّل أنكما تتناقشان حول موضوعٍ معيّن، هل كنت لتقول نفس الكلام الذي تكتبه لو كنتَ تنظر في وجهه؟ إن كان الجواب لا، فالأفضل ألّا تكتب.

ما يحصل هو أنّه بسبب غياب عناصر التواصل البشري مثل رؤية الوجوه والسماع، فإن الكلام في كثيرٍ من الأحيان يبدو خاليًا من أي “بشرية” فيه، يخرج بطريقة جافّة، وقحة، تسخيفية وتحقيرية للشخص المُخالف. لا أنكر أن الكثير من الناس أغبياء فعلًا، لكنك لم تكن لتتكلم معهم بنفس الطريقة لو كانوا يقفون أمامك وجهًا لوجه، وهم كذلك لم يكونوا ليكتبوا نفس التعليق لو كانوا واقفين أمامك. والمشكلة ليست فقط بالكلام بل بالتعامل كذلك، سواء كنتَ مدير مشروع، أو شركة، أو مجموعة فيسبوك، أو موظّفًا في قطاعٍ عام، لا تتعامل مع الناس بطريقة جافّة وكأنّهم مجرّد أشخاصٍ آخرين وأرقام أخرى، لا تتعامل معهم كأنّهم حسابات تمشي على الأرض، بل تعامل معهم بناءً على أنّهم بشر.

للأسف الحياة الرقمية لم تعد فقط تؤثّر على تصرّفات الشخص في العالم الرقمي، بل تؤثّر على سلوكياته وتصرّفاته في حياته الواقعية كذلك. منذ أن تركتُ فيسبوك وأنا أشعر بارتياح أفضل. أرى أنّ النقاشات التي أجريها مع الناس وجهًا لوجه سواء في الجامعة أو العمل أو عبر التلفون أو في المناسبات الاجتماعية أكثر هدوءًا ورواقًا من تلك النقاشات التي كنتُ أجريها على فيسبوك حيث يهتم المرء بزخرفة الكلام ليربح نقاشًا على الإنترنت. الأشخاص الذين كانوا يكتبون تعليقاتٍ غبية على فيسبوك لم أعد أراهم، ليس لانعدام التواصل بيننا بل لأنّ الناس ستتردد مليون مرّة في قول فكرة غبية أو الخوض في نقاش بشخصيتهم الحقيقية وصوتهم ووجههم في الحياة الواقعية مقارنةً بمجرّد كتابة تعليق على فيسبوك.

يدفعني هذا إلى التفكير إلى أننا ربما بحاجة إلى شبكات اجتماعية أكثر بشرية.

التأمّل في الموضوع دفعني إلى التفكير إلى أنّه عندما يحتاج إنسانٌ شيئًا منّي، ربّما عليّ أن أضع نفسي مكانه وأقدّر حاجته ثم أنظر إن كان بإمكاني تحقيقيها، بدلًا من القفز مباشرةً إلى النظر إن كان بإمكاني تحقيقها دون اعتبارٍ له كإنسانٍ في حاجة، وأنني لو كنتُ مكانه لما كنتُ لأحبّ أن أُعامل كحساب فيسبوك يمشي على الأرض.

دومّا، تذكّر الإنسان الذي أمامك.

في بيتنا فأر، أو كان

قضيتُ الشهر الماضي وأنا ألاحقُ فأرًا دخل بيتنا. نعيش في الطابق الثالث لذلك كان صعبًا عليّ أن أتصوّر من أين جاء هذا الإزعاج المُتحرّك. أمضينا الشهر ونحن ننصب الفخاخ بشتّى أنواعها لعل الفأر يموت أو يرحل ونقوم بسد الثغرات في المنزل بالإسمنت الخفيف لمنعه من الدخول، ولكن دون جدوى.

اليوم الساعة 3:30 صباحًا وجدتُه يحاول حفر حفرةً داخل غرفتي، وكل بضع دقائق أسمع صوته يحفر فأخاف وأنير الضوء وأحاول إصدار أصوات لإبعاده من داخل الجدار ولكن دون جدوى.. الشهر كلّه كان هكذا. وضعتُ قطعةً من ورق داخل الحفرة التي كان يحاول الخروج منها فصعُب عليه الخروج لكنه ظلّ يحاول أن يحفر.

على عكس المُعتاد هذه المرّة، قررتُ أن أحضر عصا وأسهّل له الخروج عبر إزالة الورقة والحفر معه كذلك لتكبر الحفرة، وأنتظره لأقتله. ما إن حفر حفرةً مناسبة لحجم رأسه حتّى مدّ رأسه لينظر في غرفتي ويعرف كيف سيخرج، فهشّمتُ رأسه بالعصا وقتلتُه في أقل من دقائق.

مات الفأر ورمينا جثّته في القمامة وأصلحنا مكان الحفرة التي جاء منها، بعدها حصلتُ على أفضل نوم في حياتي منذ شهر دون أي خوف أو رعب أو أصوات غريبة هنا وهناك. العائلة كلّها كذلك. لم نعد نسدّ أبواب غرفنا خوفًا من أن يدخل الفأر من تحتها، لم نعد نغلق النوافذ عند النوم خوفًا من أن يدخل منها.. كل هذا انتهى خلال تلك الدقائق التي قتلتُه فيها.

جعلني هذا أفكّر أنّ نفس الشيء ربما يحصل في حياتي مع عدة أشياء كذلك، فبدلًا من مواجهة الصعاب وجهًا لوجه وتحمّل القيام بالمهام لبضع ساعات، نفضّل تأجيلها والتسويف على أن نقوم بفعلها الآن رغم أننا نعلم أننا سنرتاح ونفوز بأشياء عظيمة إن فعلناها فقط لمدة محدودة. تلك المقالة التي أريد كتابتها منذ حوالي أسبوعين وذاك المشروع على GitHub الذي يتعين علي تطويره وأشياء أخرى كثيرة في حياتي.. كلّها يمكنني الخلاص من همّها وخوفها إن تحرّكتُ وقمتُ بها.

تأملت في المشهد أكثر فوجدتُ أن هجرة السوريين الجماعية من سوريا وخراب البلاد ومضي كل هذه السنوات ربّما كنا لنتفاداه لو أننا جميعًا بقينا وواجهنا الخطر بدلًا من الهروب، وأنّ المحسوبين على المسلمين على امتداد القرن الماضي لو واجهوا أعدائهم وجهًا لوجه ربّما كنّا لنرتاح بالفوز الآن. ثم وجدتُ معظم الدنيا تسير على هذا المبدأ للأسف; الخوف من الواقع فالهروب منه بدلًا من مواجهته.

دومًا، يبدو لنا ما نواجهه سواء كان كتابة مقالة أو تطوير مشروع أو قتل فأر أو تحرير البلاد كالبعبع الذي نرغب بتفاديه وتأجيله وانتظار غيرنا ليقوم بالمهمّة، لكن مواجهته بأنفسنا الآن أفضل وسيُحررنا مما نحن فيه.