المدونة الشخصية

يوم من أيام الله

كانت أول مظاهرة أشارك فيها – والوحيدة – بعد عامٍ بالضبط من بداية الثورة في 15 آذار 2012م، وكان عمري وقتها 14 عامًا.

جئتُ لأخرج من المنزل فسألني أهلي – وهم يعلمون أنه ستكون هناك مظاهرة كبيرة ذاك اليوم في الجامع الأموي بحلب – إلى أين تذهب؟ فكذبتُ عليهم وقلت أنني ذاهب لشراء بعض السيديات (CDs) من الجميلية (مركز المدينة في حلب)، وما أن خرجت من المنزل حتى أخذت سيارة تاكسي إلى الجامع الأموي الكبير.

كان هناك تواجد لقوات الأمن والشبيحة خارج المسجد وبيدهم أسلحة، وكنّا نراهم ونحن داخلون.

دخلنا وصلينا صلاة الظهر ولم يحصل شيء، فحملتُ حذائي وتوجهتُ مع بقية الناس إلى الساحة الداخلية في المسجد.

وإذا بشاب في العشرينيّات أو الثلاثينيّات من عمره، من وسط كل هذه الحشود، وعلى بعد أقل من 5 أمتار منّي، يصرخ بأعلى صوته: تكبيييير!

والناس تردد وراءه: الله أكبر!

تكبير! الله أكبر! تكبير! الله أكبر!

هكذا وما أن مضت دقيقة واحدة، حتى بدأ الشبيحة في الخارج يطلقون النار في الهواء ويغلقون أبواب المسجد حتى لا يخرج أحد من المتظاهرين.

خفتُ وقتها لأنني لم أرى ما يجري بالضبط؛ ويكأن الشبيحة كانوا سيدخلون المسجد ويعتقلون بعض الناس، وأنا بيدي حذائي، فركضنا إلى مصطبة داخلية في المسجد وجثوتُ عليها بركبتيّ للصعود عليها محاولًا الهرب للابتعاد عن مصدر الرصاص.

ثم خرج الشبيحة للخارج وبدؤوا بإغلاق الأبواب.

كانوا بمجرّد محاولة إغلاق بابٍ واحد، ينقض عليهم جماهير المتظاهرين ليحاولوا منعهم من إغلاقه.

يُغلق باب من أبواب المسجد (وأبواب الجامع الأموي بحلب كثيرة وحجمها هائل)، فيهجمون على الباب المفتوح ليسابقوا الوصول إليه.

أغلق الشبيحة جميع أبواب المسجد وبقيت المظاهرة في الداخل، وأنا أتظاهر معهم.

كان عددنا يومها نحو ألف متظاهر فقط؛ بعد عامٍ من بداية الثورة، وبعد هذا التحشيد الكبير لهذه المظاهرة على جميع صفحات الثورة، لم يحضرها سوى ألف شخص فقط.

للوهلة الأولى من المظاهرة لم أستطع أن أنطق، فهولُ المشهد وما رأيته للتو، وخوفي للحظات من الاعتقال، مع صغر سنّي وقتها، جعل قلبي ينبض بقوّة إلى أن عدتُ إلى مكان الصلاة في المسجد.

رأيتُ المصلين الذين لم يتظاهروا مع الناس وهم جالسون، وبدا لي ويكأنهم من “المنحبكجية” (مؤيدوا النظام) وقتها، ولم يكن واحدٌ منهم يتكلم بكلمة؛ فالمتظاهرون بالخارج واقفون ويهتفون وهؤلاء جالسون بالداخل.

عدتُ إلى المتظاهرين في الخارج بعد دقائق وهم يهتفون: لبيّك، لبيّك، لبيّك يا الله. وأنا أهتف معهم.

وكان النساء معزولين عن الرجال؛ فكان الرجال يأخذون أغلب المكان بينما تقف النساء في الوراء متجمعات لوحدهن.

وقد أطلق واحدٌ من المتظاهرين النار في الهواء من مسدس كان يحمله، فعلمنا أنه مع بعض المتظاهرين مسدسات كذلك إن احتاج الأمر.

إلى الآن المظاهرة مستمرة، ونحن عالقون في الداخل والشبيحة كلهم في الخارج بانتظارنا… والأعلام الخضراء، أعلام سوريا الحرة، في كل مكانٍ في المسجد بل إنّ هناك من صعد ورفع العلم الأخضر على سور المسجد.

استمر الوضع لوهلة حتى فتح المتظاهرون بابًا خلفيًا في الجامع الأموي بحلب كان يؤدّي إلى الأسواق القريبة منه، وكان هذا الباب عادةً مغلقًا ولا يدخل أو يخرج منه أحد. فتحوه وقسّموا الناس إلى رجال ونساء: الرجال من هذا الطريق والنساء من ذاك الطريق الثاني.

وكنتُ أريد أنا الذهاب من هذا الطريق الثاني، لأن هذا هو الذي أعرفه وأعرف إلى أن يؤدي، أما ذاك الطريق الأول فأنا لم أسلكه في حياتي.

المتظاهر الذي كان ينظّم الموضوع أعاد الجملة على مسمعي ثلاث مرّات حتى مشيت: الرجال من اليمين والنساء من اليسار، الرجال من اليمين والنساء من اليسار… حتى حملتُ نفسي أخيرًا ومشيتُ من اليمين، تحت ضغط أنه لا يصح أن أمشي في طريقٍ تمشي منه النساء 🙂

وبمجرّد أن خرجتُ من الجامع واختلطنا ببعض الناس الآخرين وشيءٍ من السوق والدكاكين… بدأ قلبي ينبض بقوة، حتى أن رجلاي كادتا ألا تحملاني، وكدتُ أسقط على الأرض.

قال صلى الله عليه وسلم: إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطانٍ جائر، وقال: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

إلى الآن أذكر كيف أن تفكيري كان وقتها: يا الله، هل دخلتُ في هؤلاء؟ هل حصلتُ على واحدةٍ من هذه الخصال تكفيني إلى آخر عمري؟

كان قلبي ينبض بقوّة لدرجة أنني جثوتُ على الأرض لوهلة لألتقط أنفاسي، ووضعتُ يدي عليه محاولًا تهدئته، وبقيتُ هكذا لخمس دقائق.

مشيتُ وإذا بواحدٍ من شبيحة النظام السوري بزيّه العسكري أمامي، وهو يحمل كلاشينكوف بيده، ويشتم ويصرخ في الشارع. خفتُ بأن يعرفني من المظاهرة أو أنني كنتُ معهم فيعتقلني، لكنني مشوتُ بجانبه دون أن أبدي أي ردة فعل ويكأنني شخصٌ عاديّ كبقية الناس. والحمد لله لم تحصل مشكلة.

حتى حملتُ نفسي وعدتُ إلى البيت.

حصلت أحداث كثيرة أخرى بعدها، منها اليوم الذي كدتُ أموت فيه برصاص قنّاص أطلق النار عليّ، وبعد سنةٍ أخرى من هذه المظاهرة خرجنا من سوريا إلى تركيا لتبدأ قصة اغتراب استمرت نحو 11 سنة؛ وخروجنا المبكر هذا كان لأن بيتنا في حلب قريب من فرع المخابرات الجويّة التابعة للنظام فكانت المنطقة كلها متوترة حولنا.

اليوم؛ كل هذا قد زال.

أولئك الشبيحة الذين كانوا ينتظروننا ويعتقلوننا، وفرع المخابرات ذاك الذي كان ينكّل بنا، بل هذا النظام الذي كان جاثيًا على صدورنا… قد زال من كامل تراب سوريا ولله الحمد.

لقد أزالهم الله، ولأول مرة منذ نصف قرن… اليوم، سوريا حرّة.

13 سنة عانت فيها ثورة سوريا وثوّارها الويلات، وخانها القريب قبل البعيد… واليوم تنتصر بنصر الله رغمًا عن أنوفهم، ويفرّ المجرمون كالجرذان من البلاد.

إنّه يومٌ من أيام الله.

الحمد لله، والله أكبر.

عن أهمية امتلاك صوتٍ عالمي

ضع في بالك وبينما تعمل المشاريع لدعم الويب العربي ونفع الأمة الإسلامية والمساهمة بما لديك من علمٍ أنه من الضروري كذلك للأمة أن يبقى لديها صوت عالمي (بالإنجليزية وربما غيرها من اللغات بدرجة أقل) في مختلف المجالات كذلك. سواء كان الكلام عن السياسة أو التقنية أو علوم الاجتماع أو الهندسات وغيرها من العلوم، من المهم ألا تبقى أمتنا محصورة بجلّ قوتها ومخرجاتها باللغة العربية فحسب.

أحداث غزة الأخيرة خير شاهد على ذلك، ولولا مساهمة آلاف الحسابات والقنوات الأجنبية بنشر القضية لربما كان الوضع ليكون أسوء مما هو عليه. هناك خذلان كبير غير مسبوق في التاريخ طبعًا وما قُدِّم لم يكن شيئًا يذكر لأهل غزة المكلومة، لكنه مع ذلك تسبب في حراكٍ كبيرٍ على الساحة الأجنبية مثل حراك طلبة الجامعات الأمريكية، وكشف تمويل السياسيين من منظمة آيباك الصهيونية، وجعل أوراق المغضوب عليهم تتحرّك في أصقاع الدنيا وتنكشف عنها أوراق التوت، بل لربما لتكون غزة سبب خسارة بايدن للانتخابات. ولهذا تداعيات اجتماعية كبيرة على المستقبل البعيد حتى بين ملل الكفر نفسها.

مبادرة Tech for Palestine مثلًا يقوم عليها شخص إيطالي غير مسلم، ومجموعة كبيرة من النشطاء الأجانب الذين ينسقون العمل بينهم على موقع Discord. هذه المبادرة لوحدها مسؤولة عن عشرات المشاريع الإعلامية والتقنية الأخرى الضاربة لمصالح الاحتلال في كل مكان.

لكن الأمر لا ينحصر في السياسة، بل حتى في الأمور التقنية مثلًا وغيرها فنحنُ بحاجة إلى ذلك.

عندما أنشر على FOSS Post مقالةً عن ضرورة التخلي عن نظام مايكروسوفت ويندوز والانتقال إلى البرمجيات مفتوحة المصدر، ثم يقرأ هذه المقالة آلاف الناس وتترجم إلى العديد من اللغات منها اليابانية، وتتصدّر المواقع النقاشية الأجنبية مثل هاكرنيوز وريديت، فإنني هنا أسدد ضربة ملموسة لشركة أجنبية كبرى بأدنى جهد. حتى لو استمع إليّ بضع نفرٍ من الناس، فهذا تأثيرٌ ملموس ويتوالد ويتضاعف مع مرور الزمن فكل واحدٍ منهم سينقل الفكرة لغيره.

هذه الشركات التي لم تتوانى عن دعم الاحتلال وفتح المراكز التقنية والبحثية فيه، أقل القليل الذي نفعله هو أن نضرب مصالحها عبر هذه الخطوات.

ولتفعل ذلك فلا بد أن يكون لديك صوت، مهم كان نوع هذا الصوت: موقع إنترنت، حساب تواصل اجتماعي مشهور عليه آلاف الناس، قناة يوتيوب يتابعها المئات، حساب لينكدإن لديك فيه الكثير من التواصلات… أي شيء يمكنك من خلاله التواصل مع جمهور هؤلاء الأعداء ونشر الرسائل التي تريد نشرها دون أن تخبرهم مباشرةً بذلك.

لا يعرف الكثير من الناس أن بعض الحسابات المشهورة على تويتر مثلًا يسيطر عليها هنود، ويحاولون بين الحينة والأخرى نشر أخبارٍ إيجابية عن بلدهم وجعل هؤلاء المتابعين يهتمون بها وبسياساتهم. هذه الحسابات من بينها مثلًا:

تنشر هذه الحسابات معلوماتٍ عامة حاليًا ولا تتبع خط نشر معيّن (وإن كانت تنسخ المنشورات بشكلٍ واضح من بعضها البعض)… إلا أن اللحظة المناسبة لاستعمالها من أي مؤثّر خارجي سيكون وقت الحروب والمشاكل السياسية، فستجد وقها فجأة أن الصوت الهندي عالٍ وفي كل مكان لامتلاكهم حساباتٍ مشهورة كهذه.

في مجالي وحده المرتبط بنظام لينكس والبرمجيات مفتوحة المصدر، أكثر من 50% من المنافسين والمواقع الأخرى هي لأشخاص هنود. لديهم شبكات من المواقع وليس موقع واحد فقط لكلٍ منهم، ويستعملونها لدعم بعضهم البعض والتصدّر على نتائج البحث مثلًا.

هذه قنبلة موقوتة تكبر شيئًا فشيئًا مثلًا، ولا أحد يعرف عنها.

وهذا وأنا لم أتطرق إلى تغلغلهم في مراكز صناعة القرار الغربية، ووسائل الإعلام، والمدونات ودور النشر، وغير ذلك.

فهذه دعوةٌ للقادرين على افتتاح المشاريع التقنية، وأصحاب الأعمال، والمتخصصين والمحترفين في مجالاتهم: ألا ينحصروا فقط بالنشر للجمهور العربي (وإن كان ذلك من أهم الواجبات)، وأن يحاولوا جهدهم لتشكيل قوى أكبر سواءٌ مع بقية الأمة الإسلامية من الأعاجم، ثم بقية عموم الناس على أي أرضية مشتركة يمكن البناء عليها ثم التأثير من خلالها على القضايا التي تهمنا.

حتى لو كان ما تفعله مجرد قناة يوتيوب أو حساب تلجرام أو موقع إنترنت أو برنامج مفتوح المصدر أو أي مشروع آخر… إنها تظل نوعًا من القوة طالما يمكنك استخدامها لنصرة دينك وإخوانك في أي وقتٍ لاحق، تلك القوة التي نحن مأمورون بتجميع جميع أشكالها وأنواعها حسبما استطعنا:

(وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ) [الأنفال 60].

عن نصر السابع من أكتوبر

لطالما آمنت أن هذه الأحداث التاريخية هي اختبارات وابتلاءات يُبتلى بها من لم يشهدها قبل من شهدها، ليُرى كيف يتصرف وكيف تكون ردة فعله وكيف ينصر إخوانه وكيف يكون إيمانه… انتبه أن تظنّ أن هذا ابتلاء لأهل غزة وحدهم، هذا ابتلاءٌ على كل واحدٍ فينا أيضًا؛ هل يستمر في نومه أم هل ينتبه ويستيقظ.

ما فعله المقاومون يوم 7 أكتوبر كان نصرًا مؤزّرًا.

أناس محاصرون لا يمكن إدخال شربة ماء إليهم دون إذن العدو منذ 17 عامًا، لا يكادون يمتلكون أرضًا كافية ليعيشوا عليها، قليلوا العدّة والذخيرة… ومع ذلك تمكّنوا من تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر بل وسحلوه أمام العالم في صورة لم تُسبق من قبل.

قتلوا 1300 فطيس منهم واعتقلوا نحو 220 أسير، في عملية لم تستغرق 7 ساعات.

لم يحس بهم أحد، كل هذه المليارات من الدولارات التي أنفقها الاحتلال على مدار السنوات لبناء الجدار الفاصل الذي كان يُظنّ عنه أنه لا يمكن لنملة أن تخترقه… كل هذا ذهب أدراج الرياح وتبيّن أنه أوهن من بيت العنكبوت. هناك فيديوهات تبيّن كيف أن جنود الاحتلال كانوا يحتفلون ويرقصون بينما فجأة باغتهم جنود المقاومة وأرسلوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا عملٌ لم تقم به الجيوش العربية مجتمعة لا في 48 ولا 67 ولا 73.

هل تفهم حجم الحدث وما رأيناه للتو؟ لقد رأينا أناسًا محاصرين بين الكهوف والتلال والمزارع، يفعلون ما عجزت جيوشٌ كاملة عن فعله لعشرات السنين.

كانوا يريدون عمل اجتياح برّي على غزة، وإذا بهم يكتشفون أن كتائب النخبة المُدرّبة على اقتحام غزّة هي نفسها الكتائب التي مسحتها المقاومة عن الخريطة في غلاف غزّة وأخذوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا القصف الجنوني على غزة والمجازر التي يرتكبها العدو هدفه أمرٌ واحد: محو الإنجاز والنصر الذي فعله الأبطال يوم 7 أكتوبر وجعل الناس تتحدث عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال والناس والضحايا والأضرار المادية… إلخ بعيدًا عن نصر أول يوم.

لا تسمح لهم بذلك، لا تغرق في وحل الحزن والأسى وتنسى النصر المؤزّر الذي حباه الله إخوانك.

تخيّل كيف يمكن لألف جندي فقط أن يتسببوا في كل هذه الأحداث على مستوى العالم، إلى درجة أن تحرّك أمريكا أكبر حاملة طائرات في الدنيا إلى شواطئ غزة، وأن تحرّك دول أوروبا بارجاتها الحربية إلى القرب من سواحلها، فقط تحسّبًا لوقوع دولة الاحتلال في مزيدٍ من الورطات. لقد خافوا عليهم إلى درجة أنهم ظنّوا أن دولتهم قد تزول فاضطروا إلى هذا التدخل الكبير والمباشر.

هذا نصرٌ تاريخي هائل، ودفعة قوية وإحياء وبعث للأمة الإسلامية لم يكن ليحصل لولا أنه حصل بهذه الصورة. لماذا؟ لأنه يدفعنا جميعًا للتساؤل: إن كان هذا الاحتلال الجاثم على صدورنا، والذي يحوّل جميع دول المنطقة إلى عملاء وخونة ومنافقين لأجل حمايته ويقرف حياتنا عن عمد من أجل ذلك… إن كان هذا الاحتلال أوهن من بيت العنكبوت إلى درجة أن ألف رجلٍ فقط قادرون على الفتك به وتشريد أهله، فكيف ونحن أمة المليارين مسلم لا نقدر على فعل أكثر من ذلك؟

لطالما كنتُ أحلم بكيفية التخلص من التفوّق التقني لأعدائنا علينا، وكيف أنه ربما يمكننا إيجاد وسائل وآليات تقلّص هذا الفارق في وقتٍ قصير بفضل توفيق الله لنا، كما قال الشيخ أحمد الحرّاني رحمه الله: أن الله يؤيد عباده المؤمنين وينزل عليهم بركاته لكي يتعلّموا ويعرفوا ما يدركه الكافرون من علوم الدنيا في قرونٍ، يهبهم الله إيّاه في سنواتٍ قليلة من الاجتهاد”… وها أنا ذا أراه أمام عينيّ: مناطيد مربوطة بمراوح عملاقة، مصنّعة محليًا وتبدو أنها مجرّد خردة حديد ملحومة مع بعضها، لتجاوز الجدار العازل الإسرائيلي صاحب الأساطير!

درستُ قبل أشهر تفسير سورة العنكبوت، وانبهرتُ بتفسير قوله تعالى: “مثلُ الذين اتخذوا من دونِ الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإنّ أوهن البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ لو كانوا يعلمون”. هذا تشبيهٌ لا أبلغ منه للمشركين الذين ظنّوا أن اتخاذهم معبودين من دون الله سيقرّبهم إلى الله، وأنه سيحميهم ويقويهم في الدنيا… وإذا بالواقع على العكس من ذلك: المشرك أكثر الناس خوفًا من الآخرة وأكثرهم خوفًا من الموت، لا يستجيب شركاؤه الذين عبدهم من دون الله له، بل على العكس أيضًا من ذلك، يبعده ذلك عن الله أكثر فأكثر، وهو يظن أنه في غاية الحماية والمنعة. مثله كمثل العنكبوت التي تظنّ أنها تبني بيتًا لنفسها من الخيوط لتعيش عليه، وإذا بأقل دفعة هواء أو رشّة ماء أو خطوةِ حيوانٍ ينهار بيتها على رأسها بالكامل ولا يعبئ أحدٌ بها ولا ببيتها.

هذا هو حال المشركين الذين يعبدون أحدًا من دون الله: يظنون في أنفسهم المنعة والقوة، وإذا في الواقع بنياهم كبيت العنكبوت ينهار بأقل مقاومة ومدافعة، وبأقل تقديرٍ من الله.

إخواني فليستمدّ الواحد منّا بعض هذه النفحات الإيمانية التي قد تكفيه طيلة عمره. هذه الأحداث التي ينصر فيه المؤمن دين ربّه ثمّ إخوانه المؤمنين وفق أمر ربّه هي هبات ربانية على الإنسان أن يتفطن لها ويجمعها في حياته وكأنه يجمع قطعًا من ألماس.

لا أحد مطالبٌ بتحقيق نتائج وثمرات واقعية فهذه على الله سبحانه، لكن كل امرءٍ عليه من العمل ما يقدر عليه. هل تفهم ما أقول؟ هذه الأعمال هي من أجلك أنت وليس من أجلهم. إنها أمورٌ تملء بها صحيفة حسناتك، وتقيك من النفاق الأكبر، ودليلٌ أمام ربّ العالمين على حياة قلبك وانحيازك لأمّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

ما تفعله ليس من أجلهم، ولا لأجل أحدٍ من الناس، إنه لأجلك أنت.

ويكأن الله سبحانه يبارك ويوفّق الإنسان بقدر ما يشتعل الإيمان في قلبه في هذه الأحداث.

كلنا نحزن للمجازر والمصائب التي تنزل بأهلنا في غزّة، والقصف المستمر وانقطاع المياه والدواء والغذاء والكهرباء وغير ذلك… لكن لا تدع ذلك يسيطر عليك، فهذا هو ما يريده العدو منك. لا تجعل مراقبتك واهتمامك بهم سلبيًا متفرجًا، بل تأمّل في النصر المؤزّر الذي حصل في أول يوم، وتبعاته وثمراته التي ستجني الأمة الإسلامية ثمراتها إن شاء الله لسنواتٍ مقبلة، فقط على أيدي بضعة نفرٍ محاصرين متابعين مطلوبين في بقعةٍ جغرافية لم يكن يظن أحد أنها قادرةٌ على ذلك.

لا تكثر من النشر عمّا يحصل لغزة الآن، دون أن تنشر عن النصر العظيم الذي حصلت عليه في ذلك اليوم.

ما حصل يوم 7 أكتوبر، سيتكرر في مراتٍ كثيرة، ولم يكن بعد هزيمة السحرة مجتمعين أمام عصا موسى سوى شقّ البحر.

جولة في الأناضول

ارتحلتُ قبل أسبوعين إلى مدينة قيصري في تركيا – وسط الأناضول – لأحد المخيمات العلمية التي فيها، وقد زرتُ قبل أشهر مدينة قونيا. هذه ليست المرة الأولى التي أزورها بل زرتها مراتٍ كثيرة أيضًا لنفس السبب، ولكن غرضي هذه المرة كان سبرَ الاستقرار فيها والانتقال إليها من اسطنبول على عكس المرات السابقة.

حياة المدن الكبرى حيث يعيش 16 مليون إنسان حياة كبيرة متعبة لا يعرف الفرق بينها وبين المدن الصغيرة إلا من جرّب الاثنين. تخيّل أنني بحاجة إلى 15 دقيقة للنزول من الشارع الرئيسي إلى الميترو (قطار الأنفاق) في محطة سيركجي باسطنبول فقط لكي أبدأ بالانتقال فيه، بينما يمكنك قضاء مشوارك في نفس المدة في المدن العادية. بعد فترة ستجد عمرك يذهب في المواصلات.

قيصري وقونيا وأضروم وملاطيا وسيفاس وغيرها من مدن الأناضول هي مدن داخلية يعيش فيها كمتوسط مليون إنسان، ويعمل أهلها بمختلف الصناعات والتجارات. فيها جالية عربية مختلفة على حسب المدينة، كما أن الجامعات تلعب دورًا فالكثير من الطلاب لا يُقبلون في المدن الكبرى فيأتون للدراسة في مدن الأناضول المختلفة.

عشتُ في اسطنبول نحو 8 سنين وسئمتُ من العيش فيها مؤخرًا لعدة أسباب:

  • المواصلات كما ذكرتُ آنفًا. كل مشوار يحتاج أن تعطيه ساعة ذهابًا وساعة إيابًا، يعني ساعتين مواصلات في اليوم. هذا فضلًا عن الحاجة إلى تبديل أكثر من وسيلة مواصلات للأماكن الأبعد (الانتقال من الطرف الآسيوي للأوروبي). ستجد نفسك مرهقًا في نهاية اليوم وليس لديك مزاج لعمل شيئ فأنت واقف على رجليك طوال الوقت وتُطحن في المواصلات مع مئات الناس.
  • غلاء كل شيء. تخيل أن استئجار غرفتين وصالون في اسطنبول يمكنك به استئجار بيتين في قيصري كل واحد منها يكون 3+1 (ثلاث غرف وصالون) بنفس السعر، أي ما مجموعه 4 أضعاف المساحة. هذه ليست مبالغة أو تشبيه بل هو الواقع فعلًا ويمكنك التأكد بنفسك. نفس الأمر ينطبق على المواصلات وأسعار الطعام والفواتير… كل شيء ضعف ثمنه تقريبًا.
  • حياة المدن الصغيرة هادئة، الشوارع فسيحة والأرصفة كبيرة والناس لا أحد فيهم يتشاكل مع أحد فكلٌ مشغولٌ برزقه ومرتاحٌ في عمله. في اسطنبول تحسّ أن الجميع يريد أن يطحن الآخرين.
  • النساء أكثر احتشامًا في مدن الأناضول، على عكس المدن الكبرى حيث تتسابق الفتيات والسياح للخلوعة. والناس محافظون أكثر بشكل عام.
  • نفوس الناس أكثر طيبة بشكل عام. في اسطنبول يكثر النصب والاحتيال من مختلف الجنسيات، ولا أحب مساكنة أناسٍ يختارون الخمرجي على الطيّب (مثال لن يفهمه إلا من في تركيا).
  • المدينتان قريبتان من خط الزلازل لكنني أؤمن أن قيصري أفضل من اسطنبول في هذه الناحية، لأن معظم البيوت في قيصري هي ناطحات سحاب (+10-15 طابق) وقد بُنيت في آخر 20 سنة بعد زلزال إزميت، ولهذا فالمباني تعتبر حديثة ويمكنها التحمّل على عكس مباني اسطنبول القديمة والمرهقة. زلزال 7.5 ريختير الأخير في كهرمان مرعش جنوب تركيا لم يهدم أي مبنى في قيصري (هدموا لاحقًا 300 مبنى بسبب التشققات وقابلية الانهيار لكن لم ينهر أي واحد في البداية).
  • لا الهواء هواء ولا الماء ماء ولا الخضروات خضروات في اسطنبول. الهواء به رطوبة عالية وتلوّث كبير بسبب المواصلات وكثافة السكان، والماء ليس نقيًا كنقاء الأنهار والينابيع في الأناضول، وهو بدوره ما يؤثر على كل شيء في الطعام واللحوم والخضروات… تحس أن حتى طعم كل شيء مختلف عمّا في اسطنبول.
  • لدي بعض الأعمال التي يمكنني إنجازها مع بعض الأصدقاء في المدن القريبة.
  • أسباب أخرى…

أعمل في مجال الكتابة وتطوير البرمجيات ولهذا فأنا غير مرتبط بالمدن الكبرى مثل اسطنبول، وتوفير المزيد من المال بالنسبة لي سيكون مفيدًا جدًا على المدى البعيد لحياتي. ولهذا فإنه لا سبب منطقي للبقاء في اسطنبول من هذا المنظور.

مدن الأناضول جميلة جدًا بل هي من أجمل بلاد الدنيا، وكل مدينة فيها ما لا يوجد في المدينة الأخرى، وفوق كل هذا فالمعيشة فيها مريحة. هذه بعض الصور المختلفة للمدن التي زرتُها (من كاميرا الموبايل ولهذا فالصور تبدو أقل من جمالها في الحقيقة، وهي غي مفلترة):

على الإنسان أن يحاول أن يتخفف من الدنيا قدر المستطاع. يمكنني البقاء في المدينة إن شئت والعمل في الوظيفة التي تناسبني إن شئت والمنافسة على أفضل فرص المعيشة إن شئت، ولله الحمد معي ماجستير وخبرة سنوات في مجال علوم الحاسوب وما يرتبط بها… لكن لماذا يفني الإنسان نفسه في متاع الدنيا الزائل؟ لماذا لا يقبل بما هو متوفر له بالفعل، بل يذهب ويصرف معظم وقته وحياته للحصول على المزيد من الملبس والمأكل والمشرب والمبيت؟

لقد طغت المادية على حياة الناس حتى دون أن يشعروا، وصارت هي تجربة الحياة والعيش الافتراضية التي يريدونها. تخرّجتُ منذ 8 أشهر من الماجستير ولم ألتحق بوظيفة من وقتها بل لم أبحث عن واحدة أصلًا، حيث كانت المشاريع الجانبية التي أعمل عليها تكفيني بفضلٍ من الله. لستُ ضد الوظيفة بل أجدها الخيار الأنسب لمعظم الناس لفترةٍ من الزمن، ولكن الخليط المادي من العيش في المدن الكبرى مع الوظيفة التي تسحب معظم وقتك وأيضًا في المواصلات الصعبة… هذه حاول الخلاص منها.

خلال هذا الوقت صرتُ أسافر إلى عددٍ من مدن الأناضول وأتامل في الحياة التي حولنا، وكيف يعيش الناس، وهل هذه يا ترى هي فعلًا الحياة التي عليّ أن أختارها لنفسي… أكرمني الله أيضًا بالدراسة على يد أحد المشايخ الفضلاء، فكنا ننعزل بعيدين عن الناس خارج المدينة لعدة أيام نتدارس كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بعيدًا عن صخب الدنيا وضجيجها… بعد 1400 سنة من نزولهما، لا زال الله يكرم بعضًا من عباده بالانقطاع لدراستهما واستخلاص ما فيهما من العلم والحكمة والموعظة… تجربة من أحلى تجارب الدنيا، لا يمكن لمشغولٍ بالدنيا أن يخوضها.

لا أدعو أحدًا هنا إلى اتخاذ إجراء فوري، لكل إنسان وضعه الاجتماعي ومسؤولياته، ومسار حياته الذي عليه أن يقرر كيف يختاره. لكن هذه التدوينة فقط “جولة” ليرى الإنسان أن فرصًا بديلة من العيش والطمأنينة والبركة وراحة البال متوفرة، وأنه عليه هو أن يختار بين هذه الحياة أو هذه الحياة.

لا أصوّر نفسي كشخصٍ تخلّص من هذه النظرة المادية هو الآخر… لديّ مشاكل شخصية متعددة ككل الناس، وأيضًا بعض الأمور التي أحاول الخلاص منها خصوصًا فيما يتعلق بالاستهلاكية، ولكن ربّ حامل فقهٍ ليس بفقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه.

زرتُ البارحة مقبرة توبكابي في اسطنبول، على الرغم من أنه لا أحد لي فيها، لأخلو بنفسي قليلًا وأتذكر ما نجاهده كل يوم من أمور الدنيا… وفاجأني شاهد القبر هذا، حيث لم يُكتب عليه سوى: “الدنيا فانية، الله هو الباقي”.