كانت أول مظاهرة أشارك فيها – والوحيدة – بعد عامٍ بالضبط من بداية الثورة في 15 آذار 2012م، وكان عمري وقتها 14 عامًا.
جئتُ لأخرج من المنزل فسألني أهلي – وهم يعلمون أنه ستكون هناك مظاهرة كبيرة ذاك اليوم في الجامع الأموي بحلب – إلى أين تذهب؟ فكذبتُ عليهم وقلت أنني ذاهب لشراء بعض السيديات (CDs) من الجميلية (مركز المدينة في حلب)، وما أن خرجت من المنزل حتى أخذت سيارة تاكسي إلى الجامع الأموي الكبير.
كان هناك تواجد لقوات الأمن والشبيحة خارج المسجد وبيدهم أسلحة، وكنّا نراهم ونحن داخلون.
دخلنا وصلينا صلاة الظهر ولم يحصل شيء، فحملتُ حذائي وتوجهتُ مع بقية الناس إلى الساحة الداخلية في المسجد.
وإذا بشاب في العشرينيّات أو الثلاثينيّات من عمره، من وسط كل هذه الحشود، وعلى بعد أقل من 5 أمتار منّي، يصرخ بأعلى صوته: تكبيييير!
والناس تردد وراءه: الله أكبر!
تكبير! الله أكبر! تكبير! الله أكبر!
هكذا وما أن مضت دقيقة واحدة، حتى بدأ الشبيحة في الخارج يطلقون النار في الهواء ويغلقون أبواب المسجد حتى لا يخرج أحد من المتظاهرين.
خفتُ وقتها لأنني لم أرى ما يجري بالضبط؛ ويكأن الشبيحة كانوا سيدخلون المسجد ويعتقلون بعض الناس، وأنا بيدي حذائي، فركضنا إلى مصطبة داخلية في المسجد وجثوتُ عليها بركبتيّ للصعود عليها محاولًا الهرب للابتعاد عن مصدر الرصاص.
ثم خرج الشبيحة للخارج وبدؤوا بإغلاق الأبواب.
كانوا بمجرّد محاولة إغلاق بابٍ واحد، ينقض عليهم جماهير المتظاهرين ليحاولوا منعهم من إغلاقه.
يُغلق باب من أبواب المسجد (وأبواب الجامع الأموي بحلب كثيرة وحجمها هائل)، فيهجمون على الباب المفتوح ليسابقوا الوصول إليه.
أغلق الشبيحة جميع أبواب المسجد وبقيت المظاهرة في الداخل، وأنا أتظاهر معهم.
كان عددنا يومها نحو ألف متظاهر فقط؛ بعد عامٍ من بداية الثورة، وبعد هذا التحشيد الكبير لهذه المظاهرة على جميع صفحات الثورة، لم يحضرها سوى ألف شخص فقط.
للوهلة الأولى من المظاهرة لم أستطع أن أنطق، فهولُ المشهد وما رأيته للتو، وخوفي للحظات من الاعتقال، مع صغر سنّي وقتها، جعل قلبي ينبض بقوّة إلى أن عدتُ إلى مكان الصلاة في المسجد.
رأيتُ المصلين الذين لم يتظاهروا مع الناس وهم جالسون، وبدا لي ويكأنهم من “المنحبكجية” (مؤيدوا النظام) وقتها، ولم يكن واحدٌ منهم يتكلم بكلمة؛ فالمتظاهرون بالخارج واقفون ويهتفون وهؤلاء جالسون بالداخل.
عدتُ إلى المتظاهرين في الخارج بعد دقائق وهم يهتفون: لبيّك، لبيّك، لبيّك يا الله. وأنا أهتف معهم.
وكان النساء معزولين عن الرجال؛ فكان الرجال يأخذون أغلب المكان بينما تقف النساء في الوراء متجمعات لوحدهن.
وقد أطلق واحدٌ من المتظاهرين النار في الهواء من مسدس كان يحمله، فعلمنا أنه مع بعض المتظاهرين مسدسات كذلك إن احتاج الأمر.
إلى الآن المظاهرة مستمرة، ونحن عالقون في الداخل والشبيحة كلهم في الخارج بانتظارنا… والأعلام الخضراء، أعلام سوريا الحرة، في كل مكانٍ في المسجد بل إنّ هناك من صعد ورفع العلم الأخضر على سور المسجد.
استمر الوضع لوهلة حتى فتح المتظاهرون بابًا خلفيًا في الجامع الأموي بحلب كان يؤدّي إلى الأسواق القريبة منه، وكان هذا الباب عادةً مغلقًا ولا يدخل أو يخرج منه أحد. فتحوه وقسّموا الناس إلى رجال ونساء: الرجال من هذا الطريق والنساء من ذاك الطريق الثاني.
وكنتُ أريد أنا الذهاب من هذا الطريق الثاني، لأن هذا هو الذي أعرفه وأعرف إلى أن يؤدي، أما ذاك الطريق الأول فأنا لم أسلكه في حياتي.
المتظاهر الذي كان ينظّم الموضوع أعاد الجملة على مسمعي ثلاث مرّات حتى مشيت: الرجال من اليمين والنساء من اليسار، الرجال من اليمين والنساء من اليسار… حتى حملتُ نفسي أخيرًا ومشيتُ من اليمين، تحت ضغط أنه لا يصح أن أمشي في طريقٍ تمشي منه النساء 🙂
وبمجرّد أن خرجتُ من الجامع واختلطنا ببعض الناس الآخرين وشيءٍ من السوق والدكاكين… بدأ قلبي ينبض بقوة، حتى أن رجلاي كادتا ألا تحملاني، وكدتُ أسقط على الأرض.
قال صلى الله عليه وسلم: إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطانٍ جائر، وقال: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
إلى الآن أذكر كيف أن تفكيري كان وقتها: يا الله، هل دخلتُ في هؤلاء؟ هل حصلتُ على واحدةٍ من هذه الخصال تكفيني إلى آخر عمري؟
كان قلبي ينبض بقوّة لدرجة أنني جثوتُ على الأرض لوهلة لألتقط أنفاسي، ووضعتُ يدي عليه محاولًا تهدئته، وبقيتُ هكذا لخمس دقائق.
مشيتُ وإذا بواحدٍ من شبيحة النظام السوري بزيّه العسكري أمامي، وهو يحمل كلاشينكوف بيده، ويشتم ويصرخ في الشارع. خفتُ بأن يعرفني من المظاهرة أو أنني كنتُ معهم فيعتقلني، لكنني مشوتُ بجانبه دون أن أبدي أي ردة فعل ويكأنني شخصٌ عاديّ كبقية الناس. والحمد لله لم تحصل مشكلة.
حتى حملتُ نفسي وعدتُ إلى البيت.
حصلت أحداث كثيرة أخرى بعدها، منها اليوم الذي كدتُ أموت فيه برصاص قنّاص أطلق النار عليّ، وبعد سنةٍ أخرى من هذه المظاهرة خرجنا من سوريا إلى تركيا لتبدأ قصة اغتراب استمرت نحو 11 سنة؛ وخروجنا المبكر هذا كان لأن بيتنا في حلب قريب من فرع المخابرات الجويّة التابعة للنظام فكانت المنطقة كلها متوترة حولنا.
اليوم؛ كل هذا قد زال.
أولئك الشبيحة الذين كانوا ينتظروننا ويعتقلوننا، وفرع المخابرات ذاك الذي كان ينكّل بنا، بل هذا النظام الذي كان جاثيًا على صدورنا… قد زال من كامل تراب سوريا ولله الحمد.
لقد أزالهم الله، ولأول مرة منذ نصف قرن… اليوم، سوريا حرّة.
13 سنة عانت فيها ثورة سوريا وثوّارها الويلات، وخانها القريب قبل البعيد… واليوم تنتصر بنصر الله رغمًا عن أنوفهم، ويفرّ المجرمون كالجرذان من البلاد.
إنّه يومٌ من أيام الله.
الحمد لله، والله أكبر.