هناك الكثير من المبادئ والأفكار والقيم التي انكشفت في فترة توقّف العالم الماضية بسبب كورونا.
واحدٌ من بينها – وهو ما سأتحدث عنه اليوم – هو “انتظار العلم”. أنت دومًا بانتظار أن يأتي أحدٌ ويعلّمك: عندما تكون صغيرًا تنتظر أن يضعك أبواك في المدرسة. عندما تتخرج من المدرسة تنتظر أن تدخل الجامعة ويعلّمك الأساتذة الجامعيون هناك. عندما تتخرج تنتظر أن تحصل على منحة أو أي شيء لتكمل دراستك في الخارج… أيضًا ليأتي الآخرون ويعلّموك.
تنتظر أن يضع أحدهم خطة علمية لتسير عليها، تنتظر أن يقرر أحدهم ما هو هدفك في الحياة، تنتظر أن يخبرك أحدهم عن “الحل” السحري لمشاكلنا، تنتظر أحدهم أن يشرح لك كيف تربح من التدوين…
أنت دومًا تنتظر أحدهم ليأتي ويعطيك شيئًا من العلم، مهما كان. أنت في الواقع لا تعمل عقلك هل تريد هذا أم لا، هل من المناسب أن أضيع سنتين في هذا أم لا، هل الأربع سنوات هنا مناسبة لأضيعها من عمري أم لا. وجزءٌ من هذا موروث مجتمعي وجزءٌ منه هو ضغط الأهل والأسرة عليك.
دومًا، تنتظر الحياة أن تأخذ مجراها، ولا تفكّر أن تسوقها بنفسك.
هناك دومًا شيءٌ في ذواتنا يقول لنا: انتظر أن يخبروك هم بما يجب عليك فعله، ولكن لا يبدو أنّه هناك شيءٌ في ذواتنا يقول لنا: مالذي يجب فعله؟ وكيف يمكنني أن أفعله بنفسي؟
انتظار العلم هذا برأيي يجعل الناس أقل إعمالًا لعقولهم في الحياة والكون والوجود بأنفسهم، فهم دومًا بانتظار الأجوبة بل وحتّى الأسئلة من الآخرين. إذا كنت تتربى لمدة 20 سنة أن تحصل عليها من الآخرين، فحينها غالبًا ستنتظر بقية حياتك لتحصل عليها كذلك.
في الماضي كان البشر يتأملون في كل شيء: في الشمس والقمر والنجوم وحركة الكواكب والحيوانات والطبيعة والبحار وما لا يعد ولا يحصى. ربّما تجد المزارع على دراية بنجوم السماء دون أن يتعلّمها من أحد! فقط بنفسه وعبر التأمل الطويل لشهور وسنوات.
من أصغر شيء إلى أكبر شيء، كلّه تأمّل وتجريب واكتشاف وفضول.
مجرّد اكتشفهم لطبخة “المحشي” كافية لتخبرك عن مدى حبّهم للاطلاع والاكتشاف بأنفسهم، من هذا بحقّ الله الذي خطر له أن يأخذ الكوسا ويفرغها من محتواها، ثم يحشوها بالرز المخلوط باللحم وشيءٍ من مرق الطماطم ثم يضعه على النار ساعتين إلى أن ينضج؟
لقد انتهى هذا التأمّل في عصرنا على ما يبدو، الجميع يبني فوق المبادئ والتصوّرات الموجودة بالفعل، ولا أحد يحاول تعلّم الرياضيات والفيزياء مثلًا بنفسه دون الاعتماد على كتاب أو مرجع خارجي. لا أحد يعلّم نفسه شيئًا دون أن ينتظره من الآخرين.
جانبٌ منه صحيح ﻷننا لسنا بحاجة لإعادة اختراع العجلة، ولأن العلوم أصبحت أكثر تعقيدًا بالفعل، وجانبٌ منه خاطئ في الاتكالية الكاملة على كل ما هو موجود دون النظر فيما ورائه وهل البناء من الصفر في الواقع سيكون أفضل منه أم لا.
مدننا القبيحة المليئة بالسيارات، لم يفكر عبقري واحد طيلة الـ150 عامًا الماضية أن يبنيها بحيث تكون مركزية حول البشر لا حول المواصلات والسيارات. 150 عام من عناء التنقل وصوت الضجيج وغبار المحرّكات وحوادث السير والملايين من القتلى فيها… 150 عام من الدفع لقاء شهادات القيادة والسيارات وصيانة السيارات والجسور والجمارك وأشياء لا تعد ولا تحصى… ولم يفكّر أحدٌ في أن ينظر خارج هذا التصوّر والمبدأ الموجود بالفعل ليكتشف ترى هل نحن بحاجة للسيارات داخل المدن بهذا الشكل أصلًا؟ هل من المنطقي أن يمتلك كل فرد أو كل أسرة سيارتهم الخاصّة؟
الآن خذ هذه الفكرة وأسقطها على عدّة أشياء أخرى في الحياة. نظام التعليم الذي مدته 17 سنة، الأسرة التي لا يمكنك تكوينها إلى أن تصل الـ30 سنة، أنظمة الحكم والقوانين الموجودة التي بُنيت وفُصّلت على واقعٍ قبل 100 سنة وما تزال مستمرة إلى اليوم والكثير من الأشياء الأخرى في حياتنا اليومية… نحن دومًا بالانتظار.
المشكلة هي أنّ الانتظار غالبًا ما ينهيه الموت، ويُفاجئ المرء أن عمره قد مضى ولم يعمّر شيئًا لآخرته فيه، فقد كانت الدنيا تشغله لمدة 30 سنة لينهي بناء الأسرة ومصدر الرزق، متى سيتفرغ لأفكاره الأخرى إن كان مشغولًا بتلك الأشياء؟
هذه الحلقة بحاجة إلى أن تُكسر.