كتبتُ قبل عامٍ مقالًا أعلن فيه إغلاق حسابي على فيسبوك وعدم العودة إليه مجددًا. وبالفعل، لم أعد أستخدم حسابي بل حذفتُه بالكامل.
الحياة الحقيقية رائعة.
لعل أبرز ما لاحظته خلال تلك الفترة هو أنّ مواقع التواصل وخصوصًا فيسبوك تصيب المرء بأمراضٍ نفسية لا حصر لها. شخصيته التي يتحدّث ويناظر بها على فيسبوك ليست هي نفس شخصيته لو قابلته وتحدثت معه على أرض الواقع. ويكأنّك تتحدث مع إنسانٍ مختلف تمامًا.
على فيسبوك، الهدف هو كتابة تعليقات ومنشورات تجذب أكبر عدد ممكن من اللايكات والمتابعين، وهو بدوره ما يهيّج التنمّر الإلكتروني (Bullying) في الناس فيدخلون في جدال وشِتَام لكل خلق الله الذين يعرفونهم والذين لا يعرفونهم. والمثير في الموضوع هو أنّ تكلفة إضافة تعليق جديد صفر، فيمكنك رمي التعليق والهروب، ويمكنك شتم فلان ثم عمل بلوك له لكي لا يردّ عليك، ويمكنك أن تقول ما شئت أينما شئت وقتما شئت دون أن يكون عليك رقيبٌ ولا حسيب. كيف يمكن للناس أن يعيشوا في بيئةٍ كهذه؟ نعم، إنّهم يعيشون فيها 24 ساعةٍ في اليوم، فالفيس مفتوحٌ طوال الوقت.
يصيبك فيسبوك كذلك بانفصام الشخصية، والتكبّر والغرور وحبّ الحمد على ما لم تفعل. كم مرّة رأيت أحدهم “يسرق” منشورات الآخرين ثم يضع تحتها منقول؟ أو ينسخها ويلصقها في حسابه، ثم يضع إشارة لصاحب المنشور في محاولة بائسة لتبرئة ذمّته بدلًا من أن يقوم بعمل مشاركة فيذهب التفاعل لصاحب المنشور الأصلي ويُعرف من هو؟ كذلك ألم تعجبك نفسك وأنت ترى اللايكات والتعليقات تنهمر على كلامك؟ وبعد أن يمتلئ حسابك باللايكات والمتابعين، ألم توسوس لك نفسك بل ولربّما فعلت وأفتيت في أشياء ومجالات لو تكلمتَ بها حرفًا على أرض الواقع لرماك الناس بالقمامة من جهلك بأبسط القواعد؟
كذلك ألا تلاحظ أنّ أسلوبك في كتابة الكلام على فيسبوك يختلف عن طريقتك في التحدّث على أرض الواقع؟ هل تتكلم بالفعل هكذا مع أصدقائك ومعارفك فتنفش ريشك وتزخرف الكلام لتحصل على أكبر تفاعل؟ وتلك القضايا والحوادث والأمور التي تحصل في مختلف أنحاء الدنيا… هل كنت لتحدّث أصدقائك على أرض الواقع بها؟ أم فقط لأنّك ترى كل الناس يتحدّثون عنها على فيسبوك، فتريد أنت كذلك أن تركب الموجة؟
الآن تخيّل نفسك وقد مضت السنين من عمرك، وأنت على هذا الحال. لا أنت طوّرت نفسك ولا سكتّ فداويت جهلك ومنعته من أن يستفحل إلى غيرك. أين الخيرُ في هذا؟ لعل شعوري لا يصلكم وهذا لأنني بدأتُ منذ فترةٍ بطلب العلم، والعلم له لذةٌ لو شعرتم بها لما قبلتم أن تأخذوا قمامة أحدهم الفكرية على شكل منشور فيسبوك، فذاك الخبير الذي تحسبونه “محترفًا” على فيسبوك بالتحليلات السياسية والثقافية والدينية، كتابٌ واحدٌ تقرأونه يغني عن ألفٍ مثله. لأنّه ينشر بعبثية، وليس بمنهجية. ثم بعد هذا كلّه، أنتم تخلطون عبثية كل شخصٍ أو صفحة تتابعونها على فيسبوك لتشكّلوا مجموع معارفكم الإنسانية.
أذكر أنني عندما كنتُ في السعودية، وكنتُ لم أبلغ العاشرة بعد، أنّ كلمة “صحفي” كانت شتيمة: لأنّ الصحفي كان يدلي بدلوه في كل قضايا الدين والدنيا ويتجنّى على أهل العلم والمعرفة دون أن يكون هو بنفسه حاملًا لأي مؤهل علمي، فالصحفي ليس سياسيًا ولا مهندسًا ولا دارسًا لأبسط أساسيات علوم الاجتماع حتّى، ولا طالب علم شرعي، ومع ذلك، وبسبب دعم القنوات والمؤسسات لهؤلاء، فهم يظنون أنّ إحقاق الحقّ وإبطال الباطل بيدهم. ولهذا كان مجرّد الانتساب لهؤلاء شتيمة.
عفى الدهر عن مهنة الصحافة القديمة حيث كان المرء يكشف ويفضح ويصدح بالحقّ ولو على حساب دمّه. اليوم، الصحفيون والصحافة ما هم إلّا موظّفون روتينيون لنشر الأخبار الكاذبة والبروبجاندا كما يريد منهم المموّل. معاهم معاهم عليهم عليهم.
فيسبوك هو البيت الرئيسي لكائنات بشرية أسوء من الصحفيين، ففيسبوك لا يتطلّب شهادة جامعية ولا مزاولة لأي مهنة لنشر منشور أو كتابة تعليق، يمكن للجميع أن “يهروا” كما يشاؤون على الموقع الأزرق. وتكون المصيبة إذا مسك أحدٌ من هؤلاء الكائنات صفحةً مليونية فيصل هريه إلى الملايين من الناس فيتّبعون جهله ظانينه علمًا. فيسبوك كمنصّة هو من يهيئ البيئة اللازمة لذلك، ويحفّزهم ويدعمهم ويصل هؤلاء ببعضهم البعض. بل ويُجري أبحاثًا علمية لكيفية جعل الناس مدمنين عليه أكثر. خذ ميّزة الإشعارات ومشاهدة الفيديوهات والتصفّح اللانهائي كمثال. في المحصّلة، نتاج كل هذه الأشياء هو “العبثية”.
كل المنشورات عبث، كل التعليقات عبث، آراء لا تستقيم بها لا دنيا ولا دين، آلات إعلامية لنشر الكذب والخداع والفجور ولا أحد يبذل عناءً في التحقق من شيء. وأناسٌ أسلموا عقولهم لمنشوراتٍ وفيديوهاتٍ يصنعها مجاهيل من أنحاء الأرض. وفاشلون يريدون أن يعرضوا صورهم وقصصهم مع فلان ليحسدهم فقراء النفس عليها. عبثية محضة لا خير فيها.
الحمد لله الذي خلّصنا من سماع هؤلاء ومجالستهم والتأثّر بهم بل وأن نكون منهم.
على عكس الأمراض التي تصيب الجسد، فالأمراض النفسية تتطلب وقتًا طويلًا جدًا للشفاء منها. ما تزال روحي تُشفى من تلك الفترة ولا أراها قد تعالجت بالكامل بعد.
يتساءل الكثير من الناس عن “البديل”، لكن ما يجهلونه هو أن ما يطلبونه في الواقع ليس البديل، بل الأصل. الأصل هو أن تدرس شيئًا وتتخصص فيه، ثم تأخذ معارف الحياة من أشخاصٍ تراهم ويرونك ويحدّثونك وتحدثهم، وتعرف من هم ومن يشهد لهم بالعلم، وتعرف صدقهم، فقط من هؤلاء يمكنك أن تأخذ شيئًا عنهم. الأصل هو أن تقابل الناس في الحياة الواقعية، وتصلح الأشياء في الحياة الواقعية، وتحارب الدول والحكومات في الحياة الواقعية لا على منشورات فيسبوك. اطحن جدران ذاك الموقع كما تريد، الواقع لن يتغير بذلك.
لا تضع وقتك في المرح والترفيه، فهذه الأشياء لا تعمّر دنياك ولا آخرتك، بل وظيفتها أن تمضي عمرك فقط.
لا تتابع الأخبار. ذكرتُ لكم في تلك التدوينة قبل سنة أنني كنتُ أستخدم خدمةً تدعى inoreader.com لمتابعة خلاصات RSS… لقد توقّفت عن ذلك بعد شهرين من إقلاعي عن فيسبوك، أي قبل 10 شهورٍ من الآن. في البداية تظن أنّه من الواجب أن تتطلع على كل شيء لكي تتخذ قراراتٍ أو إجراءاتٍ مصيرية قد تتعلق بحياتك، لكن صدّقني، لو كان الخبر كبيرًا إلى هذه الدرجة لوصلك من طريقٍ آخر. لا تحتاج سوى أن تطلع على أكبر المجريات وأهم الأحداث، وهذه وسائل التعرّف عليها كثيرة، أمّا فيسبوك فدوّامة لن تخرج منها.
فترة التعافي من هذا الإدمان قد تطول، لذا لا تضعف وترجع بعد بضعة شهور، بل كلّما ازداد صبرك عن هذه الأشياء كلمّا تحسّنت حياتك وأنت لا تشعر.
أنا الآن مسرور، بل ومسرورٌ جدًا. لقد تخلّصت من أكبر مصدرٍ للإلهاء والعبثية في حياتي. ووقتي الذي تبقّى لي إمّا أن أتعلّم فيه شيئًا جديدًا أو أفعل أشياء جديدة، وأمّا أن أستبقيه لنفسي فيما ينفعني… لا صداع، لا جدال، ولا شيء ليعكّر صفو حياتي بصورةٍ يومية، ولا إشعارات تزعجني، ولا أخبار تكئبني.
فالحمد لله! ومن لم يتخلّص من حسابه بعد، فأدعوه إلى أن يفعل نفس الأمر.
جميل، هل قرأت كتاب الماجريات؟ سيكون متممًا على هذه التجربة ومؤكدًا عليها.
كتاب الماجريات كان السبب الذي تركت فيسبوك بسببه 🙂
السلام عليكم، برأيك ما هو البديل؟