قمتُ قبل بضعة أيّام بإزالة حسابي من على فيسبوك بالكامل. استخدمتُ فيسبوك لأول مرّة في 2011م وبقيت أستخدمه إلى اليوم. تعرّفت خلال تلك السنوات على العشرات من الناس وأنشئتُ الكثير من المشاريع والمبادرات معهم. حصلتُ على الأخبار أولًا بأول وأقنعتُ نفسي عبثًا بأنني أقوم بشيء مهم. هذه ليست المرّة الأولى التي أحاول فيها الإقلاع عن الموقع ولكن الحمد لله أنّها الأخيرة.
أنا لا أصدّق أنني تخلصتُ من فيسبوك ولا يمكنني أن أصف شعوري لك. كنتُ أتصفّح فيسبوك حوالي 6 أو 7 مرّات في الساعة تحسّبًا لأي “طارئ”، مثل إعجابٍ جديد أو تعليق جديد أو رسالة جديدة. كان لدي الكثير من الصفحات والمجموعات التي أديرها كذلك وكنتُ أعتبر نفسي أنني أستفيد من هذا الوقت الذي أقضيه على عكس غيري الذين يشتركون بصفحات تافهة ويدخلون الموقع للدردشة. كانت “العدّادات” تستنزف عقلي وتفكيري دون أن أشعر. يطيبُ لي أن أسميّها: “العدادات الملعونة”.
العدادات الملعونة موجودة في كل مكان. عدّادات الإعجابات والتعليقات والأصدقاء والرسائل وتحديثات الصفحات والمنشورات الجديدة في المجموعات.. وهي موجودة كذلك خارج فيسبوك وليست محصورةً فيه. المشكلة هي أنّ هذه العدادات تُجبرك على التحقق منها لتجعلها صفرًا. إن لم ترى نفسُك البشرية رقم 0 (أو فراغ) مكان ذاك العداد الذي يلحّ عليك باللون الأحمر أن تتحقق منه فحينها لن ترتاح، لذا فأنت في دوّامة فقط لكي تتخلص من تلك العدادات وتتحقق من كل التحديثات والمنشورات والإعجابات والرسائل والأصدقاء الجدد على مدار اليوم، لا وظيفة لك سوى أن تضغط على العدادات وترد على الموجود فيها.
وبما أن هذه العدادات يتم تحديثها أولًا بأول، فستظل في حلقة مفرغة للتحقق منها. ويا سلام لو كان هناك خاصيّة التمرير اللانهائي كما في منشورات فيسبوك أو التحديثات الحيّة لتلك العدادات! حينها تكتمل وصفة الإدمان.
بينما أكتب لكم هذه التدوينة الآن هناك رقم “1” يظهر لي الآن على أيقونة برنامج تلجرام (Telegram) بخلفية حمراء. أنا مجبرٌ دومًا على الضغط على ذاك الرقم لجعله يختفي متى ما شاهدتُه. ببساطة يستفزني إلى درجة تجعلني لا أستغني عن النقر عليه بمجرّد أن أراه موجودًا. “ياللهول، 6 رسائل؟ مِن مَن يا ترى؟”، “أوه، هناك 7 طلبات صداقة و3 إشعارات ورسالتان، يجب أن أتحقق منها جميعًا”.
يجب أن يكون العداد صفرًا، يجب ألا يكون هناك شيءٌ ورائي كرسالة تنتظرني من أحدهم أو تعليق جديد أو طلب صداقة.. وإلّا لن أرتاح. أنا لا أصدّق أنّ بضعة أرقام مكتوبة على خلفية حمراء تدمّر حياتنا بهذا الشكل. من أين نزلت هذه الفكرة الملعونة؟
هذا ما تستغله مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصّات في ذواتنا البشرية: ميّزة “الفضول” وعدم قبول الاستفزاز المتواصل. معظمُها يستخدم اللون الأحمر لأنّهم يعلمون أنّه اللون المُستخدم في إشارات المرور لأنّه اللون الذي يصل إلى أبعد مدى ويشدّ أكبر انتباه، إنّه اللون المثالي للاستفزاز. أمّا أن تجمع ذاك اللون المُستفز مع تلك العدادات الملعونة، فمن أين نزلت هذه الفكرة؟
غيّرتُ كلمة سرّي على حسابي على فيسبوك عبر استخدام كلمة سرٍ عشوائية لا أعرفها أنا حتّى عبر موقع Random.org (تجنبًا لمحاولة دخولي للموقع لاحقًا إن ضعفت)، ثم قمتُ بتعطيل حسابي بلا رجعة. بالطبع قمتُ بإسناد صفحاتي ومجموعاتي إلى حسابٍ وهمي آخر لا أتابع فيه أحدً وليس فيه أي صديق (ولن يكون) فقط للنشر على تلك الصفحات والمجموعات (ولم أدخل إليه إلى اللحظة).
أشعر وكأنني خرجتُ من سجن تدمر، ولكن دون آثار تعذيب.
أولئك الأصدقاء الوهميون الذين صادقتهم من مُختلف أنحاء الدنيا لن يعودوا موجودين في حياتي الآن. إنهم مجرد حسابات فيسبوك كنا نتسامر مع بعضنا البعض فيها. لن يعرفوا عني شيئًا ولن أعرف عنهم شيئًا. لأنهم ليسوا حولي الآن. لم أعد أهتم بكتابة منشورات تعجبهم أو تفيدهم ولم أعد مهتمًا بعدد المتابعين أو الأصدقاء.
نقاشات فيسبوك الهرائية لم تعد حولي، لن أهتم بالتعليق هنا وهناك. ولن يكون عدد الإعجابات على المنشورات والتعليقات هو معيار الصواب والخطأ.
استفقتُ لأجد أنني لا أملك الكثير من اﻷصدقاء في الحياة الواقعية، فقط أنا والمرآة.
ينتابني شعورٌ بالسخرية لأشارك هذا المقال على حسابٍ ما بفيسبوك، ولكنني أتذكّر أنني حذفتُه.
حياتي الآن أفضل بكثير. أتابع آخر الأخبار عن طريق خلاصات RSS بفضل خدمة تُدعى Inoreader.com، وبفضل هذا، يمكنني التركيز على قراءة المقالات والمحتوى المفيد ودراسته وتحليله بشكلٍ كامل عوضًا عن منشورات وتعليقات فيسبوك المُستهلكة. لا شيء ورائي ولا عدّادات لأتخلّص منها، لا أتابع الأخبار إلّا مرّة في الصباح والظهيرة والمساء، وباقي اليوم كلّه فراغ لباقي أعمالي وأنشطتي. كما أنني لستُ في عجلةٍ لأشارك مقتطفًا من المقال مع متابعيي على فيسبوك لأحصد إعجابهم وثناءهم، القراءة لي وحدي. أستمتع بها وآخذ الملاحظات بنفسي وأجمّعها في ملفّات جميلة للمستقبل.
يمكنني أن أؤلف لكم كتابًا عن مساوئ فيسبوك، إنّه كالسرطان في الروح. إنكم لا تدركون أنّ ما أنتم مدمنون عليه ليس في الواقع مجرّد موقع إنترنت، بل أسلوب وطريقة حياة استهلاكية مقيتة تدمّر أعماركم.
إنكم تدورون في آلة هندسية احترافية مُصممة لجعلكم مدمنين على المنصّة بأقصى شكلٍ ممكن. تلك الألوان الحمراء والأرقام الموجودة في كلّ مكان، والأرقام الضخمة من المتابعين لمشاهير فيسبوك التي تحسدونهم عليها وتتمنون لو كان لديكم مثلها مما يدفعكم إلى نشر المزيد، وصفحات فيسبوك المليونية التي تأملون أن يكون عندكم مثلها أملًا بأن تنشروا أشياء مفيدة عبرها… كل هذا وهم. كل هذا سراب تلحقونه ظانّين أنكم تفنون أعماركم في شيءٍ مهم بينما في الواقع تنثرونه أدراج الرياح.
عندما أردتُ إغلاق حسابي، ترددتُ كثيرًا. “ماذا عن الخبراء والمُحترفين الذين أتابعهم وأستفيد منهم، كيف سأصل إليهم لاحقًا؟ ماذا عن صفحاتي ومجموعاتي التي أديرها وليس لها غيري؟ ماذا عن قائمة أصدقائي الطويلة والعريضة”؟ أنصحكم بألّا تستمعوا للإغراءات وأن تتخلصوا منه اليوم قبل الغد. كل هذه الأشياء يوجد لها بدائل أفضل بمليون مرّة. ذاك الخبير الذي تخاف أن تخسر متابعته على فيسبوك يوجد هناك مليون مثله بين الكتب ومواقع التدوين والمقالات والمجلّات. ذاك الصديق الوهمي عبر فيسبوك الذي تخاف أن تخسره، هناك مليون صديق أفضل منه وأوفى على أرض الحياة.
أنا لا أصدق أنني كنتُ محرومًا من قراءة عشرات الكتب والمقالات الثريّة والاستفادة من وقتي أيّما استفادة على مدار 7 سنوات، فقط لأتصفّح موقعًا على الإنترنت يمدّني باﻷخبار. لا أصدق أنني تخليتُ عن الأشياء التي كان بإمكاني إنتاجها على مدار تلك السنوات فقط لأستهلك جرعة دوبامين سريعة يتم تمريرها إليّ على شكل منشورات وتعليقات وعدّادات فيسبوك كما يتم تهريب أوراق الحشيش والمخدرات.
الحياة الواقعية هناك في الخارج، وليست على الموقع اللعين.
2 comments / Add your comment below