إذا تأمّلت قليلًا في الحياة فستجد أنّ نظام التعليم في 95% من بلدان العالم مشابه؛ تعليم ابتدائي ثمّ إعدادي وثانوي، ثمّ امتحان دخول للجامعة ثم 4 سنوات أو 5 من الدراسة. يكفي أن تخسر بضع علامات في واحدٍ من هذه المراحل وستتغير حياتك بأكملها، لن تدخل الجامعة التي تريدها أو الاختصاص الذي تريده بسبب 0.1% خسرتها، لن تكون بجانب أهلك لأنّك ستنتقل إلى دولة أخرى للدراسة، لن تتعلّم الطبّ لأنّك فشلت في تعلّم فيزياء الجسم الصلب. هكذا يسير نظام التعليم في معظم دول العالم وهكذا يتحول البشر إلى آلات كلّ همّها تحصيل الشهادة والعمل.
الأمر لا يتوقف هنا بل حتّى من ناحية الإجراءات والأوراق اللازمة لإكمال تعليمك هناك من يقتلك بالخفاء، إذا فات عليك موعد التقديم على الجامعات في شهرٍ معيّن مثلًا فستخسر سنة كاملة من عمرك انتظارًا للسنة المقبلة، إذا كنت تمتلك جميع الأوراق اللازمة ولكنّك لا تملك امتحان الدخول الجامعي (مثل SAT وACT وغيرها) فلن تتمكن من التسجيل بالكثير من الجامعات، إذا كنت لا تمتلك تعديلًا لشهادتك الثانوية في البلد الذي تقيم فيه فلن تقبلك أيّ جامعة، وقس على ذلك. تخيّل أن تغيّر حياة إنسان فقط من أجل ورقة بيضاء لا تقدّم ولا تؤخّر؟
السنة الماضية خسرت 70 علامة من أصل 800، بسببها، انتقلت لأعيش عامًا كاملًا بعيدًا عن أهلي، دفعت تكاليف، وخسرت سنين من عمري. رغم أنّه في الواقع لم يجب عليّ بتاتًا أن آخذ مثل هكذا امتحان فهو غير مخصص لي أساسًا، ولكنّها الظروف. لكلٍّ منّا ظروف.
يمكنني أن أكتب جريدة عن نظام التعليم العالمي الحالي ولن أنتهي. كلّنا كذلك في الواقع، كم منّا حلم أن يدخل الاختصاص الذي يريده، ولكنّ أحد المواد التي لا علاقة لها بما يريد دراسته بتاتًا منعته من ذلك، فيزياء أو رياضيات أو فلسفة أو حتّى التربية القومية في بعض البلدان؟
المشكلة الأخرى بالتعليم الحالي هي الامتحانات الموحّدة، نحن 7 مليارات بشري هنا، تقييم واختبار كل شخص على حدى أمر يستغرق الكثير من الوقت والجهد بل ربّما لا يكون ممكنًا في بعض البلدان، لذلك فالامتحانات الموحّدة على قطعة ورق بيضاء هي الحلّ – وفق نظام التعليم الحالي – لهذه المشكلة، لكن تخيّل أن تقيس مدى ذكاء أو فهم الملايين من الناس لموضوعٍ معيّن عن طريق طرح نفس الأسئلة عليهم، رغم أنّهم جميعًا قد يكونون مختلفين في طريقة الفهم والاستيعاب أو حتّى لا يتشاركون التركيز نفسه على هذا النوع من الأسئلة؟ كيف تقرر مصير إنسان بناءً على تشكيلة من الامتحانات الموحّدة التي لا يحبها ولن يحبّها في حياته؟ ربّما كل ما يريده هو أن يعمل طبيبًا بيطريًا في حياته، لماذا تجبره على خوض امتحان بالفلسفة؟
ثمّ كيف تساوي بين الحدود الدنيا لهذا الفرع وذاك؟ إذا كان طالب أمريكي وطالب عربي يخوضان امتحان اللغة الإنكليزية فمن الإجحاف وضع نفس الحدود الدنيا للدخول للجامعة، من الطبيعي أن يتفوّق الأمريكي بحكم كونها لغته الأم ومن الطبيعي أن تكون علامة العربي منخفضة لأنّها ليست لغته الأمّ، بالطبع تحتاج التأكّد من قدرة العربي على فهم الإنكليزية ولكن هذه ليست هي الطريقة المثلى لذلك. هناك اهتمام أكبر يجب أن يحصل عليه كلّ فرد أثناء تقييم مهاراته بدلًا من تصحيح ورقته وإعطائه علامته المصيرية.
حتّى لو نجح افتراضًا ودخل الجامعة، لن يتعلّم سوى المبادئ النظرية ولن يتعلّم أيّ شيء يفيده بحياته العملية، فيتخرّج بعد أكثر من 18 سنة دراسية وعمره 23-24 عامًا وهو لا يعرف القيام بشيء. معظم الجامعات تعترف أنّها تعلّم فقط الأساسيات والباقي على الطالب ليتعلّمه من مصادره الخارجية، لماذا تأخذ 16 سنة من أعمار الناس دون أن تعلّمهم شيئًا ينفعهم؟
في الماضي الأمر كان مختلفًا، في الماضي أيّام الإسلام الأولى كان يجتمع الطلبة ومعلّموهم في المساجد والجوامع ليتدارسوا العلوم والقرآن والحديث والفقه وقليلًا من الرياضيات وبعد أن ينتهوا كانوا يكملون حياتهم العادية كراشدين حيث يبحثون بأنفسهم عن صنعة أو مهنة أو تجارة أو يتابعون تعليمهم في في المدارس المخصصة والتي كانت بنفس النمط ولكن بشكلٍ مخصص أكثر قليلًا في أحد جوانب الدين أو العلوم الدنيوية، كانت ملحقة بالجوامع الكبيرة في المدن المركزية ولم يكن الناس بحاجة إلى الانتظار ما بين 17-21 أغسطس من كل سنة لكي يقوموا بالتسجيل على هذه المدارس ولم يكونوا بحاجة إلى امتحان دخول جامعي ليتعلّموا على يدّ هذا المعلّم أو ذاك الشيخ، لم يكونوا بحاجة إلى تعديل شهادة ثانوية كما لم يخضعوا إلى امتحان موحّد لتقييم مستوياتهم، العملية كانت كلّها تتركّز على التعليم بعيدًا عن أي سفسطة أو هراء إداري بالأوراق الثبوتية والشهادات المتوفّرة.
في قرطبة كان الطلّاب يدرسون في “المكتب” بينما هم صغار ثم ينتقلون إلى “المدرسة” عندما يكبرون ليتابعوا دراستهم، كان العلماء يأتون بكل عفوية إلى الجوامع ليعطوا دروسًا لطلبة العلم وكان كل من يريد الحضور مرحبًا به مهما كانت درجة تعليمه وسواء كان حطابًا أو نجارًا أو حتّى أميرًا، كان التعليم موجودًا في كل مكان ومتوفرًا للجميع بسهولة.
النساء لم يتأخّرن عن ذلك، في الواقع الشكر لفاطمة الفهري التاجرة الغنية لإنشائها أوّل “مدرسة” رسمية في العالم عام 859م في المغرب من مالها الخاصّ، من قال أنّ النساء في الماضي كُنّ لا يفعلن شيئًا سوى تربية الأولاد والاهتمام بالعائلة وإعداد الطعام؟
بعد أن ينتهي الطالب من التعلّم في “المدرسة” (والتي كانت تنقسم إلى تخصصات يعلّم فيها معلّمون متخصصون وكانت تستغرق 16 سنة وفقًا لمقدّمة ابن خلدون)، كان يحصل على “إجازة” من تلك المدرسة تشهد له بقدرته على التعليم في ذاك التخصص، تلك الشهادة تعادل الدكتوراة في زماننا.
كلّ ذلك انتهى بعد قيام الثورة في إنجلترا ثم فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، ركّز الحكّام على تعليم الناس أساسيات المهارات المطلوبة لأكبر عدد ممكن من الناس لإيجاد أكبر قوّة عاملة ممكنة لتحقيق نهضة اقتصادية وصناعية في البلاد، تشغيل الآلات كان هو المطلوب، بناءً على هذا تشكّل نظام التعليم القائم على الشهادات والاختبارات والمراحل العمرية وامتحانات الدخول والأوراق المطلوبة شيئًا فشيئًا مع الوقت وصولًا إلى اليوم خصوصًا مع إعلان كل دولة استقلالها وبالتالي إنشائها نظامها التعليمي الخاص بها، ثمّ انتقل هذا النظام من إنجلترا إلى جميع دول العالم ومارست كلّ دولة منها هيمنتها على الدول الأصغر منها لتطبّق ذلك النظام.
الوضع هكذا فعلًا إن تأمّلت فيه، 100 ألف طالب يتخرّج كل سنة ليبحث عن وظيفة في أحد القطاعات في بلاده ليعمل إلى نهاية حياته، كأنّه آلة بشرية تتعلّم طريقة تشغيل الماكينات الأخرى لكي تقوم بمهمتها ضمن النظام الاقتصادي العالمي القائم على سيطرة الأقلية المطلقة على الأكثرية. صار أوّل سؤال يسأله المعلمون لطلّابهم الصغّار: “ماذا تريدون أن تصبحوا عندما تكبرون”؟ وصار همّ كل طفل منهم هو أن يصبح طبيبًا أو مهندسًا أو شرطيًا دون أخذ الاعتبار لأي أهداف بتاتًا، صار الهدف هو “العمل” وفقط آلة تقوم بعمل ميكانيكي ثم تقبض أموالًا كل شهر ثم ينتهي مفعولها بعد 60 سنة.
قبل بضعة أيام انتشرت الأخبار أنّ امتحانات الثانوية العامّة في مصر قد تمّ تسريبها (أو بعضٍ منها)، تلاها تسريب امتحانات الثانوية في سوريا والسودان والمغرب والجزائر.. هاكم نظام تعليمكم، يأتي أحدهم ولم يدرس كلمةً قطّ لينجح ويصبح مسؤولًا في الدولة بينما الأكثر علمًا وجهدًا والأقل حظًا يصبح مدرّس أدب عربي. هل من شرٍّ أعظم على سطح المعمورة من أن يصبح الجاهل طبيبًا والغبي جنرالًا والغشّاش رئيسًا..؟
يمكننا جميعًا أن نتحدث عن مدى فشل نظام التعليم في العالم، جميعنا سنصفّق لبعضنا البعض ونقوم بعمل لايك وشير، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحًا: مالحل؟ الحلّ هو في إسقاط النظام العالمي نفسه وإنشاء نظام تعليم بديل، لأنّه لن يسمعك أحد وأنت تجعجع عن التعليم والمدارس والجامعات على أحد المدوّنات على الإنترنت، لأنّ من مصلحتهم إبقاء الوضع هكذا ومن مصلحة جميع الدول أن تبقى شعوبها جاهلة إلى درجة معيّنة لكي تستمر الحياة كما هي عليها الآن.
كلّ ما عليك أن تدركه كفرد هو أنّ فشلك في مثل هكذا نظام تعليم قد لا يعني بالضرورة أنّ المشكلة منك (قد تكون، لكن ليس بالضرورة)، وأنّ الشهادة التي ستحصل عليها ما هي إلّا قطعة ورق لا تعني بالضرورة خبرتك في مجالك واختصاصك الذي اخترته، كما يجب ألّا تشعر بتاتًا بالذنب في حال اخترت التعليم الذاتي وتركت المدرسة والجامعة وشهاداتها فهي لم تعد سوى حبر على ورق اليوم في 2016.
ما هي معالم نظام التعليم البديل؟ الكثير مما لا يسع تفصيله هنا، يجب أن يُتخلّص من نظام التقييم بناءً على الامتحانات الموحّدة، يجب أن يحصل كلّ فرد على امتحان تقييمي بشري خاصّ به بناءً على قدراته وملاحظاته وتخصصه الذي يريده، يجب أن يتم التخلص من النظام الشبه سنوي للتسجيل ومواعيده والأوراق البيضاء التي يجب إحضارها من هنا وهناك لإكمال التعليم، يجب أن يكون التعليم الاحترافي مجانيًا للفقراء لأنّهم سيبقون فقراء طوال حياتهم إن لم يتعلّموا، يجب تغيير طريقة دخول الطلّاب إلى الجامعات وتغيير الحدود الدنيا بل وإزالتها تمامًا والاعتماد على نتائج تقييم كل طالبٍ على حدى.. هناك الكثير من الأمور القابلة للتغيير والنقاش في نظام تعليمٍ بديل، نظام يضمن للجميع أنّهم سيحصلون على التعليم حقًا، تعليم يفيدهم في حياتهم اليومية وليس مجرد شهادات يتم جلبها عبر الغشّ قبل آخر يوم من الامتحان.
هل هذا يعني أن نترك الجامعات ونتعلم بأنفسنا؟ بالطبع لا، شخصيًا أسعى لشهادة الدكتوراة، ولكن من المهم علينا جميعًا أن نعي أنّ ما يحصل في قطاع التعليم على مستوى العالم ما هو إلّا تعليب للبشر وإعادة تدوير، وأنّ هذا ليس هو الأساس وليس ما نطمح إليه.
كيف تهرب من وادي التعليم المميت؟ فلنبدأ ثورةً في التعليم! فيديوهات لـKen Robinson على TED:
[ted id=865 lang=ar]
[ted id=1738 lang=ar]
“حتّى لو نجح افتراضًا ودخل الجامعة، لن يتعلّم سوى المبادئ النظرية ولن يتعلّم أيّ شيء يفيده بحياته العملية، فيتخرّج بعد أكثر من 18 سنة دراسية وعمره 23-24 عامًا وهو لا يعرف القيام بشيء”
أختلف معك في هذه النقطة، ليس في جميع التخصصات ولا معظمها فقط قليل منها التي تتعلم فيها مبادئ نظرية لن تفيدك بشيء مثل الحاسوب، ولكن الطب وتخصصاته المختلفة وكذلك العلوم الطبيعية و الهندسة وجميع تخصصاتها لن تتعلمها لوحدك وطريقك الوحيد في مثل هذه التخصصات هو الجامعة.
أما التخصصات المهنية هي التي ينطبق عليها قولك، التي من السهل تعلمها بمفردك.
ربّما معك حقّ فكون تخصصي هندسة البرمجيات فقد غلبت عليّ تلك النقطة 🙂
لكن الكلام ينطبق على قسم كبير من التخصصات فحتّى الهندسات كالهندسة
البيئية والمدنية وغيرها وحتّى الصيدلة، تحتاج خبرة إضافية لكي تبدأ
بممارسة العمل وحتّى الطبّ لن يوظفوك في حال علموا أنّك تخرّجت للتو لتعمل
في العمليات الجراحية، ستحتاج خبرة عملية في كلّ مكان سواء بالتدريس أو
الطبابة أو المعاملات، والمقصود هي أنّ الجامعة لن تعلّمك كل ما تحتاجه
لخوض سوق العمل. نعم لن تتعلم الطبّ عبر كورس من الإنترنت ولكنك ستتعلم
الخبرة الإضافية من المشافي.
اذاً، يمكن القول بأن يتم اصلاح التعليم الجامعي وجعل الطالب مهيأً لسوق العمل وليس ترك الجامعة من الأصل .
لا لا يمكن قول ذلك. لا أتوقع أنّك تعتقد أنّ المستفيدين من الوضع الحالي سيقبلون التغيير بمجرد النقاش والاقتراح مثلًا؟ لتغيير التعليم وإصلاحه عليك الوصول للحكم وتغييره بنفسك، للوصول إلى الحكم أنت تعلم ما يجب أن يحصل، الأمور كلّها مترابطة ببعضها البعض وهذه العبودية الحديثة التي نعيشها اليوم حتمًا ستنتهي كما أفل نجم فرنسا وبريطانيا من قبل وظهر البديل غيرهما. الأمر ليس ببعيد.
لا تنظر إلى المشكلة الصغرى بل انظر إلى المشكلة الكبرى، انظر إلى من خلق هذا النظام أساسًا، انظر إلى من جعل معظم دول العالم تعمل به، المشكلة ليست “طريقة” أو سلوك محلّي يمكن تغييره، هناك منظومة كاملة يجب هدمها.
ثم إلى أن يتم استبدال نظام التعليم ماذا سيفعل الطالب مثلًا؟ الواقع صعب.
هناك سؤال مهم في هذا الصدد وهو لماذا نتعلم وما فائدة العلم؟ على سبيل المثال هناك مواد كالتربية القومية والفلسفة ما فائدتها؟ ما الذي سيجنيه الطالب من معرفته بالفلسفة مثلًَا؟؟
هل أنا كاتب هذا المقال؟ 😀