الحمد لله ربّ العالمين

هناك جامع صغير قريب نسبيًا من منزلنا أصلي فيه من فترة لأخرى، خصوصًا صلاة العشاء.

قد يبدو هذا المشهد عاديًا، خصوصًا لمن اعتاده، إلا أنه يأسر قلبي وترتعد منه جوارحي في كل مرّة أشهده ويكأنني أشهده للمرة الأولى؛ كيف نجتمع في صفٍ واحد أو صفٍ ونصف من الناس على الأكثر، من مختلف الأعراق والألوان، ولابسين مختلف الثياب وعارفين لمختلف المهن في الحياة، لنصطف وراء الإمام في هذا الليل البهيم، وتحت صوت الرعد والمطر في الخارج والدنيا تسير وتهيج والناس في كلّ غمٍ وهمّ… إلا نحن، نجتمع وراء الإمام ليقول بصوته العذب الجليّ: {الحمد لله ربّ العالمين! الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إيّاك نعبدُ وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم!}.

كل الناس في مشاغلها في هذه الحياة الدنيا، إلا هذه العصبة الصغيرة التي تراها في الصورة – ومن مثلهم – يجتمعون كل يوم ليطلبوا نفس المطلب من الله: “الحمد لله ربّ العالمين… اهدنا الصراط المستقيم…”. شيوخ وأطفال وشباب، غالبهم الشيوخ الذين لم تتفق أذهانهم على جمال وسحر هذا المشهد إلا بعد أن بلغوا من الكبر عتيًا.

الصلاة في جماعة عالمٌ آخر مقارنةً بصلاة الفرد وحده في بيته، ولكننا قد أكلنا وشربنا من حطام الدنيا حتى لم يعد في مقدورنا المتابعة. إلا أنه وبعد أكثر من 1400 سنة، ما يزال هناك من يصلي كل يوم، ليقولها عاليًا أمام كل الناس: الحمد لله ربّ العالمين.

هذا المكان، وهذا الزمان الذي تقام فيه الصلاة، هو أفضل وأعلى ما يمكن لجماعة الناس – كل الناس – أن يصلوا إليه أو يحققوه في حياتهم. إنه الشيء الوحيد الذي يهم حقًا بغض النظر عن كل تفاصيل الحياة التافهة.

لا يقل المشهد في الطريق إلى الجامع جمالًا وسحرًا عن هذا المشهد؛ فبينما يجلس كل حبيبٍ إلى حبيبه، وأناس تبقى في منازلها إما لاهية وإما لاعبة وإما في شيءٍ آخر… يصطفيك الله وحدك لتمشي وحيدًا في الشارع بعد أن دخل كل الناس بيوتهم، ولم يبقى سواك، لتأتي وتشهد هذا المشهد الباهر. ذهبت الشمس، وذهب الناس، وطلع القمر… وأنت ما تزال تمشي إلى مكانٍ ما لتصلي فيه مع إخوانك، ولا مطلب لك سوى ذلك.

علينا أن نحرّك حيواتنا لتصبح متمركزة حول هذا المشهد والمشاهد الشبيهة به بدلًا من العكس. لا تحاول ضبط العبادة بما يناسب الوظيفة والدراسة والعمل، بل اضبط هؤلاء ليناسبوا العبادة.

3 comments / Add your comment below

  1. ما ختمت به عبارة بليغة، فعلاً نحن محتاجون لضبط جميع أنشطتنا المختلفة على العبادة.
    بالنسبة لي أصبحت لا أُحسن صلاة الفرض إذا فاتتني صلاة الجماعة، فاسهوا في كثير من اﻷحيان ولا أعرف كم ركعة صليت فتجدني أعيد الصلاة أحياناً وأسجد سجود السهو أحياناً، فتصبح تكلفة زمن صلاتي منفرداً أطول مما لو صليت في المسجد، لذلك كان هذا دافع لأن لا أفوت صلاة جماعة أبداً

    1. فعلًا يا معتز معك حقّ، تركيز وخشوع الإنسان في صلاة الجماعة أيضًا لا يشابه صلاته منفردًا.

      شكرًا على مرورك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *