عن نصر السابع من أكتوبر

لطالما آمنت أن هذه الأحداث التاريخية هي اختبارات وابتلاءات يُبتلى بها من لم يشهدها قبل من شهدها، ليُرى كيف يتصرف وكيف تكون ردة فعله وكيف ينصر إخوانه وكيف يكون إيمانه… انتبه أن تظنّ أن هذا ابتلاء لأهل غزة وحدهم، هذا ابتلاءٌ على كل واحدٍ فينا أيضًا؛ هل يستمر في نومه أم هل ينتبه ويستيقظ.

ما فعله المقاومون يوم 7 أكتوبر كان نصرًا مؤزّرًا.

أناس محاصرون لا يمكن إدخال شربة ماء إليهم دون إذن العدو منذ 17 عامًا، لا يكادون يمتلكون أرضًا كافية ليعيشوا عليها، قليلوا العدّة والذخيرة… ومع ذلك تمكّنوا من تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر بل وسحلوه أمام العالم في صورة لم تُسبق من قبل.

قتلوا 1300 فطيس منهم واعتقلوا نحو 220 أسير، في عملية لم تستغرق 7 ساعات.

لم يحس بهم أحد، كل هذه المليارات من الدولارات التي أنفقها الاحتلال على مدار السنوات لبناء الجدار الفاصل الذي كان يُظنّ عنه أنه لا يمكن لنملة أن تخترقه… كل هذا ذهب أدراج الرياح وتبيّن أنه أوهن من بيت العنكبوت. هناك فيديوهات تبيّن كيف أن جنود الاحتلال كانوا يحتفلون ويرقصون بينما فجأة باغتهم جنود المقاومة وأرسلوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا عملٌ لم تقم به الجيوش العربية مجتمعة لا في 48 ولا 67 ولا 73.

هل تفهم حجم الحدث وما رأيناه للتو؟ لقد رأينا أناسًا محاصرين بين الكهوف والتلال والمزارع، يفعلون ما عجزت جيوشٌ كاملة عن فعله لعشرات السنين.

كانوا يريدون عمل اجتياح برّي على غزة، وإذا بهم يكتشفون أن كتائب النخبة المُدرّبة على اقتحام غزّة هي نفسها الكتائب التي مسحتها المقاومة عن الخريطة في غلاف غزّة وأخذوهم بين قتيلٍ وأسير.

هذا القصف الجنوني على غزة والمجازر التي يرتكبها العدو هدفه أمرٌ واحد: محو الإنجاز والنصر الذي فعله الأبطال يوم 7 أكتوبر وجعل الناس تتحدث عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال والناس والضحايا والأضرار المادية… إلخ بعيدًا عن نصر أول يوم.

لا تسمح لهم بذلك، لا تغرق في وحل الحزن والأسى وتنسى النصر المؤزّر الذي حباه الله إخوانك.

تخيّل كيف يمكن لألف جندي فقط أن يتسببوا في كل هذه الأحداث على مستوى العالم، إلى درجة أن تحرّك أمريكا أكبر حاملة طائرات في الدنيا إلى شواطئ غزة، وأن تحرّك دول أوروبا بارجاتها الحربية إلى القرب من سواحلها، فقط تحسّبًا لوقوع دولة الاحتلال في مزيدٍ من الورطات. لقد خافوا عليهم إلى درجة أنهم ظنّوا أن دولتهم قد تزول فاضطروا إلى هذا التدخل الكبير والمباشر.

هذا نصرٌ تاريخي هائل، ودفعة قوية وإحياء وبعث للأمة الإسلامية لم يكن ليحصل لولا أنه حصل بهذه الصورة. لماذا؟ لأنه يدفعنا جميعًا للتساؤل: إن كان هذا الاحتلال الجاثم على صدورنا، والذي يحوّل جميع دول المنطقة إلى عملاء وخونة ومنافقين لأجل حمايته ويقرف حياتنا عن عمد من أجل ذلك… إن كان هذا الاحتلال أوهن من بيت العنكبوت إلى درجة أن ألف رجلٍ فقط قادرون على الفتك به وتشريد أهله، فكيف ونحن أمة المليارين مسلم لا نقدر على فعل أكثر من ذلك؟

لطالما كنتُ أحلم بكيفية التخلص من التفوّق التقني لأعدائنا علينا، وكيف أنه ربما يمكننا إيجاد وسائل وآليات تقلّص هذا الفارق في وقتٍ قصير بفضل توفيق الله لنا، كما قال الشيخ أحمد الحرّاني رحمه الله: أن الله يؤيد عباده المؤمنين وينزل عليهم بركاته لكي يتعلّموا ويعرفوا ما يدركه الكافرون من علوم الدنيا في قرونٍ، يهبهم الله إيّاه في سنواتٍ قليلة من الاجتهاد”… وها أنا ذا أراه أمام عينيّ: مناطيد مربوطة بمراوح عملاقة، مصنّعة محليًا وتبدو أنها مجرّد خردة حديد ملحومة مع بعضها، لتجاوز الجدار العازل الإسرائيلي صاحب الأساطير!

درستُ قبل أشهر تفسير سورة العنكبوت، وانبهرتُ بتفسير قوله تعالى: “مثلُ الذين اتخذوا من دونِ الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإنّ أوهن البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ لو كانوا يعلمون”. هذا تشبيهٌ لا أبلغ منه للمشركين الذين ظنّوا أن اتخاذهم معبودين من دون الله سيقرّبهم إلى الله، وأنه سيحميهم ويقويهم في الدنيا… وإذا بالواقع على العكس من ذلك: المشرك أكثر الناس خوفًا من الآخرة وأكثرهم خوفًا من الموت، لا يستجيب شركاؤه الذين عبدهم من دون الله له، بل على العكس أيضًا من ذلك، يبعده ذلك عن الله أكثر فأكثر، وهو يظن أنه في غاية الحماية والمنعة. مثله كمثل العنكبوت التي تظنّ أنها تبني بيتًا لنفسها من الخيوط لتعيش عليه، وإذا بأقل دفعة هواء أو رشّة ماء أو خطوةِ حيوانٍ ينهار بيتها على رأسها بالكامل ولا يعبئ أحدٌ بها ولا ببيتها.

هذا هو حال المشركين الذين يعبدون أحدًا من دون الله: يظنون في أنفسهم المنعة والقوة، وإذا في الواقع بنياهم كبيت العنكبوت ينهار بأقل مقاومة ومدافعة، وبأقل تقديرٍ من الله.

إخواني فليستمدّ الواحد منّا بعض هذه النفحات الإيمانية التي قد تكفيه طيلة عمره. هذه الأحداث التي ينصر فيه المؤمن دين ربّه ثمّ إخوانه المؤمنين وفق أمر ربّه هي هبات ربانية على الإنسان أن يتفطن لها ويجمعها في حياته وكأنه يجمع قطعًا من ألماس.

لا أحد مطالبٌ بتحقيق نتائج وثمرات واقعية فهذه على الله سبحانه، لكن كل امرءٍ عليه من العمل ما يقدر عليه. هل تفهم ما أقول؟ هذه الأعمال هي من أجلك أنت وليس من أجلهم. إنها أمورٌ تملء بها صحيفة حسناتك، وتقيك من النفاق الأكبر، ودليلٌ أمام ربّ العالمين على حياة قلبك وانحيازك لأمّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

ما تفعله ليس من أجلهم، ولا لأجل أحدٍ من الناس، إنه لأجلك أنت.

ويكأن الله سبحانه يبارك ويوفّق الإنسان بقدر ما يشتعل الإيمان في قلبه في هذه الأحداث.

كلنا نحزن للمجازر والمصائب التي تنزل بأهلنا في غزّة، والقصف المستمر وانقطاع المياه والدواء والغذاء والكهرباء وغير ذلك… لكن لا تدع ذلك يسيطر عليك، فهذا هو ما يريده العدو منك. لا تجعل مراقبتك واهتمامك بهم سلبيًا متفرجًا، بل تأمّل في النصر المؤزّر الذي حصل في أول يوم، وتبعاته وثمراته التي ستجني الأمة الإسلامية ثمراتها إن شاء الله لسنواتٍ مقبلة، فقط على أيدي بضعة نفرٍ محاصرين متابعين مطلوبين في بقعةٍ جغرافية لم يكن يظن أحد أنها قادرةٌ على ذلك.

لا تكثر من النشر عمّا يحصل لغزة الآن، دون أن تنشر عن النصر العظيم الذي حصلت عليه في ذلك اليوم.

ما حصل يوم 7 أكتوبر، سيتكرر في مراتٍ كثيرة، ولم يكن بعد هزيمة السحرة مجتمعين أمام عصى موسى سوى شقّ البحر.

جولة في الأناضول

ارتحلتُ قبل أسبوعين إلى مدينة قيصري في تركيا – وسط الأناضول – لأحد المخيمات العلمية التي فيها، وقد زرتُ قبل أشهر مدينة قونيا. هذه ليست المرة الأولى التي أزورها بل زرتها مراتٍ كثيرة أيضًا لنفس السبب، ولكن غرضي هذه المرة كان سبرَ الاستقرار فيها والانتقال إليها من اسطنبول على عكس المرات السابقة.

حياة المدن الكبرى حيث يعيش 16 مليون إنسان حياة كبيرة متعبة لا يعرف الفرق بينها وبين المدن الصغيرة إلا من جرّب الاثنين. تخيّل أنني بحاجة إلى 15 دقيقة للنزول من الشارع الرئيسي إلى الميترو (قطار الأنفاق) في محطة سيركجي باسطنبول فقط لكي أبدأ بالانتقال فيه، بينما يمكنك قضاء مشوارك في نفس المدة في المدن العادية. بعد فترة ستجد عمرك يذهب في المواصلات.

قيصري وقونيا وأضروم وملاطيا وسيفاس وغيرها من مدن الأناضول هي مدن داخلية يعيش فيها كمتوسط مليون إنسان، ويعمل أهلها بمختلف الصناعات والتجارات. فيها جالية عربية مختلفة على حسب المدينة، كما أن الجامعات تلعب دورًا فالكثير من الطلاب لا يُقبلون في المدن الكبرى فيأتون للدراسة في مدن الأناضول المختلفة.

عشتُ في اسطنبول نحو 8 سنين وسئمتُ من العيش فيها مؤخرًا لعدة أسباب:

  • المواصلات كما ذكرتُ آنفًا. كل مشوار يحتاج أن تعطيه ساعة ذهابًا وساعة إيابًا، يعني ساعتين مواصلات في اليوم. هذا فضلًا عن الحاجة إلى تبديل أكثر من وسيلة مواصلات للأماكن الأبعد (الانتقال من الطرف الآسيوي للأوروبي). ستجد نفسك مرهقًا في نهاية اليوم وليس لديك مزاج لعمل شيئ فأنت واقف على رجليك طوال الوقت وتُطحن في المواصلات مع مئات الناس.
  • غلاء كل شيء. تخيل أن استئجار غرفتين وصالون في اسطنبول يمكنك به استئجار بيتين في قيصري كل واحد منها يكون 3+1 (ثلاث غرف وصالون) بنفس السعر، أي ما مجموعه 4 أضعاف المساحة. هذه ليست مبالغة أو تشبيه بل هو الواقع فعلًا ويمكنك التأكد بنفسك. نفس الأمر ينطبق على المواصلات وأسعار الطعام والفواتير… كل شيء ضعف ثمنه تقريبًا.
  • حياة المدن الصغيرة هادئة، الشوارع فسيحة والأرصفة كبيرة والناس لا أحد فيهم يتشاكل مع أحد فكلٌ مشغولٌ برزقه ومرتاحٌ في عمله. في اسطنبول تحسّ أن الجميع يريد أن يطحن الآخرين.
  • النساء أكثر احتشامًا في مدن الأناضول، على عكس المدن الكبرى حيث تتسابق الفتيات والسياح للخلوعة. والناس محافظون أكثر بشكل عام.
  • نفوس الناس أكثر طيبة بشكل عام. في اسطنبول يكثر النصب والاحتيال من مختلف الجنسيات، ولا أحب مساكنة أناسٍ يختارون الخمرجي على الطيّب (مثال لن يفهمه إلا من في تركيا).
  • المدينتان قريبتان من خط الزلازل لكنني أؤمن أن قيصري أفضل من اسطنبول في هذه الناحية، لأن معظم البيوت في قيصري هي ناطحات سحاب (+10-15 طابق) وقد بُنيت في آخر 20 سنة بعد زلزال إزميت، ولهذا فالمباني تعتبر حديثة ويمكنها التحمّل على عكس مباني اسطنبول القديمة والمرهقة. زلزال 7.5 ريختير الأخير في كهرمان مرعش جنوب تركيا لم يهدم أي مبنى في قيصري (هدموا لاحقًا 300 مبنى بسبب التشققات وقابلية الانهيار لكن لم ينهر أي واحد في البداية).
  • لا الهواء هواء ولا الماء ماء ولا الخضروات خضروات في اسطنبول. الهواء به رطوبة عالية وتلوّث كبير بسبب المواصلات وكثافة السكان، والماء ليس نقيًا كنقاء الأنهار والينابيع في الأناضول، وهو بدوره ما يؤثر على كل شيء في الطعام واللحوم والخضروات… تحس أن حتى طعم كل شيء مختلف عمّا في اسطنبول.
  • لدي بعض الأعمال التي يمكنني إنجازها مع بعض الأصدقاء في المدن القريبة.
  • أسباب أخرى…

أعمل في مجال الكتابة وتطوير البرمجيات ولهذا فأنا غير مرتبط بالمدن الكبرى مثل اسطنبول، وتوفير المزيد من المال بالنسبة لي سيكون مفيدًا جدًا على المدى البعيد لحياتي. ولهذا فإنه لا سبب منطقي للبقاء في اسطنبول من هذا المنظور.

مدن الأناضول جميلة جدًا بل هي من أجمل بلاد الدنيا، وكل مدينة فيها ما لا يوجد في المدينة الأخرى، وفوق كل هذا فالمعيشة فيها مريحة. هذه بعض الصور المختلفة للمدن التي زرتُها (من كاميرا الموبايل ولهذا فالصور تبدو أقل من جمالها في الحقيقة، وهي غي مفلترة):

على الإنسان أن يحاول أن يتخفف من الدنيا قدر المستطاع. يمكنني البقاء في المدينة إن شئت والعمل في الوظيفة التي تناسبني إن شئت والمنافسة على أفضل فرص المعيشة إن شئت، ولله الحمد معي ماجستير وخبرة سنوات في مجال علوم الحاسوب وما يرتبط بها… لكن لماذا يفني الإنسان نفسه في متاع الدنيا الزائل؟ لماذا لا يقبل بما هو متوفر له بالفعل، بل يذهب ويصرف معظم وقته وحياته للحصول على المزيد من الملبس والمأكل والمشرب والمبيت؟

لقد طغت المادية على حياة الناس حتى دون أن يشعروا، وصارت هي تجربة الحياة والعيش الافتراضية التي يريدونها. تخرّجتُ منذ 8 أشهر من الماجستير ولم ألتحق بوظيفة من وقتها بل لم أبحث عن واحدة أصلًا، حيث كانت المشاريع الجانبية التي أعمل عليها تكفيني بفضلٍ من الله. لستُ ضد الوظيفة بل أجدها الخيار الأنسب لمعظم الناس لفترةٍ من الزمن، ولكن الخليط المادي من العيش في المدن الكبرى مع الوظيفة التي تسحب معظم وقتك وأيضًا في المواصلات الصعبة… هذه حاول الخلاص منها.

خلال هذا الوقت صرتُ أسافر إلى عددٍ من مدن الأناضول وأتامل في الحياة التي حولنا، وكيف يعيش الناس، وهل هذه يا ترى هي فعلًا الحياة التي عليّ أن أختارها لنفسي… أكرمني الله أيضًا بالدراسة على يد أحد المشايخ الفضلاء، فكنا ننعزل بعيدين عن الناس خارج المدينة لعدة أيام نتدارس كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بعيدًا عن صخب الدنيا وضجيجها… بعد 1400 سنة من نزولهما، لا زال الله يكرم بعضًا من عباده بالانقطاع لدراستهما واستخلاص ما فيهما من العلم والحكمة والموعظة… تجربة من أحلى تجارب الدنيا، لا يمكن لمشغولٍ بالدنيا أن يخوضها.

لا أدعو أحدًا هنا إلى اتخاذ إجراء فوري، لكل إنسان وضعه الاجتماعي ومسؤولياته، ومسار حياته الذي عليه أن يقرر كيف يختاره. لكن هذه التدوينة فقط “جولة” ليرى الإنسان أن فرصًا بديلة من العيش والطمأنينة والبركة وراحة البال متوفرة، وأنه عليه هو أن يختار بين هذه الحياة أو هذه الحياة.

لا أصوّر نفسي كشخصٍ تخلّص من هذه النظرة المادية هو الآخر… لديّ مشاكل شخصية متعددة ككل الناس، وأيضًا بعض الأمور التي أحاول الخلاص منها خصوصًا فيما يتعلق بالاستهلاكية، ولكن ربّ حامل فقهٍ ليس بفقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه.

زرتُ البارحة مقبرة توبكابي في اسطنبول، على الرغم من أنه لا أحد لي فيها، لأخلو بنفسي قليلًا وأتذكر ما نجاهده كل يوم من أمور الدنيا… وفاجأني شاهد القبر هذا، حيث لم يُكتب عليه سوى: “الدنيا فانية، الله هو الباقي”.

المتخصص صاحب الأوراق البحثية والمشاريع العملية

هذا أمرٌ للأسف منتشر انتشارًا كثيرًا.

تجد الإنسان يريد أن يتخصص في مجالٍ فرعي من مجالات العلوم كالهندسة أو الطب أو الفيزياء وغير ذلك، ثم لا يعبئ بأي شيءٍ يحصل في الدنيا. لا يريد متابعة أي شخص يكتب تغريدة واحدة عن السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الدين، بل كل ما يريده هو محتوى مرتبط بتخصصه ومجاله فقط.

لا تدخل معه أبدًا في نقاشات عن مواضيع خارج ما يعمل من أجله كل يوم، فقد يصاب بهيستيريا أو حالة صرع.

هو منشغلٌ بالتصميم أو البرمجة أو التدوين أو الذكاء الاصطناعي أو الفيزياء أو العلوم، فقط، وكل شيءٍ خارج عن هذا هو أمرٌ يسبب له القلق ويعتبره بحاجة للتخلص منه.

لا تحاول أن تخبره أن عليه واجبًا شرعيًا أن يربط بين المعارف التقنية التي اكتسبها وبين ما تحتاجه أمته من خبرات، فقد يصفك مباشرة بالتطرّف.

يا ترى ما الذي يدفع الناس إلى ذلك؟ نعم ليس هناك مشكلة في أن يكون لديك تخصص أنت مهتم به وتتابعه بشغف واستمرار، لكن أن تحصر حياتك ووجودك كله في الدنيا في هذا المجال فقط ثم لا تعبئ بأي شيءٍ يحصل خارجه فهذه حالة مرضية على الإنسان الخروج منها.

الكثير مما يحصل في السياسة والدين والاقتصاد والاجتماع وتغيّر المناخ وغيرها سيكون مما يمسّك أنت سواءٌ شئت أم أبيت. كونك مصمم لا تهتم سوى بالتصميم أو صانع محتوى لا يهتم سوى بالكتابة أو مبرمج لا يهتم سوى بالبرمجة أو بيولوجي لا يهتم سوى بالبيولوجيا لن يساعدك، بل على العكس، ستكون كالأطرش الذي لا يعرف ما يجري في الدنيا ولا خيار له سوى أن يُقاد مع بقية الجموع في بلاده.

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid0oMqFhNvgnYqnPDiMwj73xtSdBTsE4M9Seo7rGD9prqzkityNCjY9XnSTxcS5xZk6l&id=100002802388124

الذي يدفع الناس إلى ذلك هو المال. ببساطة صرف المزيد من الوقت في التخصص أو المجال الفرعي وترك كل شيء خارجه هو أكبر ضمانٍ ممكن لجلب المال، فأنت تصرف معظم وقتك لتعلّم مجالك فحسب وتنسى كل الدنيا خارجه، وبالتالي هذا مدعاةٌ لجلب المنافع لك مع الوقت.

يركض الإنسان وراء المال وينسى كل شيء عدا عن ذلك.

وهذا وإن كان قبيحًا بالإنسان، كل إنسان، إلا أنه أكثر قبحًا بالإنسان المسلم. من المفترض أن يؤمن المسلم أن هذه الدنيا من أولها إلى آخرها هي مجرّد ساعة من نهار، اختبار سريع للإيمان أو الكفر والجواب إما بنعم أو لا، فكيف يهدر جلّ وقته في صناعات الدنيا وينسى ما هو أهم من ذلك؟

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس، 45]

كثيرٌ من هؤلاء المتخصصين أصحاب 70 ورقة بحثية منشورة في أرقى المجلات العلمية، لا يعرفون أحكام سجود السهو، ولا قرؤوا صحيح البخاري مرةً واحدة على الأقل في حياتهم. قد تجدهم يطلبون الحكمة في جبال الهند والصين، ثم يشمئزون من أكبر مصدر للحكمة في الكون.

وكثيرٌ منهم لا يعبئ بسفاح مجرم يحكم بلاده، بل على العكس قد يعتبرها فرصة شرف أن يقابله ويتقرّب منه، لعله يحصل منه على شيءٍ من لعاعة الدنيا؟ رحم الله الإمام أحمد كان يقول كل من يمشي مع الولاة والقضاة وسخ، وهذا على زمن المعتصم فكيف بالزمن الطيب الجميل الرائع الذي نحن فيه.

يجب على الإنسان أن يخلو بنفسه قليلًا، ويفكّر أولًا فيما أعده لآخرته، ثم ينظر في الدنيا وموقعه منها، وكيف يمكنه عمل شيء لخدمة دينه وأمته.

أما أن يكون مجرد آلة تكنوقراطية، وظيفتها فقط جمع الجوائز العلمية والغرق بالتخصصات التقنية، مثله مثل أي كافر في الدنيا يتمتع ويأكل كما تتمتع الأنعام، فهذا لا شيء يبرّد قلبي فيه وبأمثاله سوى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه:

(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).

قال ابن باز في شرح الحديث:

ويقول ﷺ: تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة والقطيفة الذي يعمل لها من أجلها، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، لا يعمل للآخرة، ولكن يعمل للدنيا، فهذا دعا عليه النبي ﷺ بالتعاسة، وفسر هذا بقوله: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش سماه عبدا لها لأنه يعمل لها، يرضى لها، ويغضب لها، لا يغضب لله ويرضى لله، بل يغضب لما لم يحصل له من الدنيا، ويرضى لما حصل، فهو عبد الدنيا ليس عبدا لله، فالواجب على المؤمن أن يكون عبدا لله، وأن يستعين بنعم الله على طاعة الله، وأن يطلب المال من جهته الحلال، وأن يكون همه ما يرضي الله ويقرب لديه، وألا يكون غضبه للدنيا ورضاه للدنيا.

انظر اليوم في الناس، وستجد أن أكثر ما يولونه الأهمية في حياتهم هو المال والوظيفة، وكل شيءٍ يأتي بعد هؤلاء. ثمّ العجب كل العجب أن نفس هؤلاء الناس يشتكون من قلة البركة والأيام الصعبة، والكوارث البيئية وتقلب المناخ وأن “الناس الطيبة لم تعد موجودة”.

توقف للحظة من حياتك واعرف أن الدنيا ليست مجرّد العمل الذي تقوم به فيها، بل هي حرث آخرتك التي ستبقى فيها إلى أبد الآبدين، فاحرص على أن تستعمل ما يقع بيدك منها فيما يوصلك إلى تلك الغاية.

مما تعلمتُه في الماجستير

أنهيتُ ولله الحمد دراستي في الماجستير قبل أسبوعين من جامعة مرمرة، اسطنبول، قسم هندسة الحاسوب.

هناك العديد من الأمور التي تعلمتُها أثناء دراستي، بعضها متعلق بالبحث والنشر الأكاديمي ككل وبعضها متعلق بالأدوات والتقنيات التي استعملتُها أثناء بحثي، وسأشارك بعضًا منها معكم في هذه التدوينة.

مقدمة عن موضوع أطروحتي

أطروحتي كانت بعنوان: “A New Method for Protecting Location Privacy in Vehicular Ad-hoc Networks”، وهي متعلقة بحماية خصوصية بيانات موقع السيارة أثناء تواصلها في شبكات السيارات.

أي سيارة حديثة لديها القدرة على المشاركة في شبكات لاسلكية ديناميكية؛ فيمكنها إرسال واستقبال البيانات من السيارات التي حولها أو من إشارات المرور أو من مرافق الطريق بشكل عام (نسمّيها Road-side Units أو وحدات جانب الطريق). يمكن للسيارة عبر هذه الشبكات أن ترسل موقعها وسرعتها ومجموعة من البيانات المرتبطة بها إلى كل من حولها على شكل إرسال عام (Broadcast) لتلتقطها أي سيارة أو شخص في المنطقة، وبالتالي يتمكنون من معرفة اتجاه هذه السيارة وأين موقعها وأين تذهب، وهو بدوره ما يساعد فيما يتعلق بـ:

  • تجنب الحوادث المرورية.
  • حماية الركّاب في حال حصول الحوادث.
  • القيادة الذاتية.
  • تحسين تدفّق المرور (Traffic) حيث يصبح بإمكان إدارة المدينة التواصل مع السيارات.
  • غير ذلك من الاستخدامات.

تُرسل هذه البيانات من كل سيارة، طوال الوقت بينما هي تسير على الطرقات، وهناك معايير معيّنة (Standards) لمعالجاتها وفهمها وإرسالها. هذه المعايير مضبوطة عبر هيئات المعايير في أوروبا ETSI وأمريكا SAE.

الآن المشكلة في الموضوع هي أنه بما أن هذه البيانات تحوي موقع السيارات الحالي (بالإضافة إلى معرّف وهمي مؤقت Pseudonym)، فيمكن لأي شخص وضع أجهزة التقاط في أي أماكن يريدها في المدينة والتقاط هذه البيانات، وبالتالي سيكتشف أين تتحرك السيارات في كامل المدينة دون الحاجة لمراقبتها بشكل مباشر، بل فقط عبر مراقبة الشبكة.

هذا قد يسبب ضررًا للسائق ويعتبر انتهاك خصوصية؛ لأنه يسمح للآخرين بمعرفة أين كنت في الماضي وأين تذهب غالبًا، وهو ما قد يؤدي لمشاكل مثل التلصص أو الاعتداءات أو غير ذلك من الأمور التي لا نرغب بها.

ما الحل؟ الحل الذي عمل عليه القطاع البحثي في السنوات الماضية (منذ أكثر من 15 سنة وإلى اليوم) هو تقديم طرق معيّنة لتغيير معرّف السيارة المؤقت (Pseudonym) بحيث يتغير باستمرار أثناء القيادة (كل 7 دقائق مشي، أو كل 2 كيلومتر، أو عند إشارات المرور… إلخ)، وهو ما سيجعل المهاجم بحاجة إلى ربط هذه المعرّفات ببعضها البعض ليتمكن من كشف مسار السيّارة السابق، وهو أمرٌ أصعب بكثير وقد لا ينجح. هناك طرق مختلفة وكل طريقة لها مميزات وعيوب.

المشكلة الجديدة هي أن القطاع البحثي اكتشف أنه مهما كانت الطريقة المُستعملة لتغيير المعرّفات، فسيظل المُهاجم قادرًا على ربط المعرّفات ببعضها البعض، وهذا بسبب البيانات الفريدة الموجودة التي تُرسل من السيارة عنها، ألا وهي طول السيارة وعرضها.

بما أن الطول والعرض لا يتغيران، بالتالي يمكن لأي مُهاجم ببساطة أن يسجل هذه البيانات، ثم حتى عندما يتغير المعرّف بأي طريقة، يمكنه ربط المعرّف القديم بالجديد عبر مقارنة بيانات الطول والعرض للسيارة (لأنهما نفسهما لا يتغيران)، وبالتالي تنكشف خصوصية السيارة بغض النظر عن الطريقة المُستعملة.

هذه كانت كارثة مبدئيًا في المجال، لأنه يعني أن مجهودات 15 سنة من البحث قد ذهبت أدراج الرياح لأمرٍ لم يكن بالحسبان، لكنني اكتشفتُ غير ذلك وقدمت طريقة لحماية السيارات من هذا حتى مع أخذ بيانات الطول والعرض بالاعتبار.

قدّمت أطروحتي وأيضًا ورقة بحثية للنشر (غالبًا في مجلة IEEE Access)، كما عملتُ على تسجيل براءة اختراع متعلقة بالأمر هنا في تركيا، وسأشارك تجاربي معكم في هذه التدوينة.

أمورٌ تعلمتُها من دراستي في الماجستير

1. النشر الأكاديمي قذر

لقد مررتُ على الكثير جدًا من الأوراق البحثية.

اكتشفتُ أن الأمر صحيح كما كان مشرفي يخبرني دومًا في الماجستير: “البحث العلمي قذر وليس نظيفًا كما تظن”. كنت أظن أن البحث العلمي قذر فيما يتعلق بأمور مثل نظرية التطور والبيولوجيا والطب وهذه المجالات، لكنني لم أتخيل أن يصل هذا إلى مجال علوم الحاسوب.

  • كثير جدًا من الأوراق البحثية التي تُنشر، تُنشر رغم أنه يكون بها عيب قاتل أو افتراض أو ادّعاء غير صحيح، لكنه مُتكتّم عليه بحيث تظهر الورقة البحثية على أنها جميلة ونظيفة بينما هي منقوضة من أصلها.
  • يحصل هذا لأن الأساتذة الجامعيين بالتحديد مطالبون بالنشر الأكاديمي كثيرًا إن أرادوا الترقّي في سلّمهم الوظيفي، وبالتالي هدفهم النشر بأكبر قدر ممكن بغض النظر عن الأمانة العلمية.
  • هناك معايير معينة لطريقة تواصل السيارات مع بعضها على أرض الواقع سواءٌ في أوروبا أو أمريكا، ثم تجد أوراقًا بحثية تتكلم عن المجال وكأن هذه المعايير غير موجودة؛ فتصبح لا قيمة لها لأنه لا أحد يطبّق شبكات السيارات كما يصف هؤلاء، بل بحسب المعايير الرسمية فقط. أي أنها تستعمل افتراضات غير صحيحة فقط لتصحيح نتائجها.
  • تكاد تكون مراجعة النظير (Peer-review) لا قيمة لها، فجلّ الأوراق التي اطّلعت عليها من هذا النوع كانت كذلك.
  • في الواقع الأمر شجعني جدًا؛ إن كان هؤلاء يخبّصون بالمجال بهذا الشكل فحينها لا مشكلة من أن أتشجع أنا وأنشر ورقتي البحثية الأولى.
  • الهيئات الرسمية التي تنشر المعايير والمعنية بشبكات السيارات في كافة أنحاء العالم تنشر أحيانًا وثائق تنصح بأسلوب معيّن أو تنصح بالابتعاد عن أسلوب معيّن في حماية خصوصية السيارات، ثم تجد معظم الأوراق البحثية تُنشر وكأن هذه التوصيات غير موجودة، وكأنه لا يعنيهم مدى قابلية تطبيق طُرقِهم بالمرّة بل فقط النشر.

اكتشفتُ مثلًا أن الورقة البحثية التي بنيتُ عليها مشكلة بحثي كانت تستعمل قياسات السيارات بالمليميتير، لكن المعايير الرسمية تستعملها بالسنتيميتر والديسيميتير؛ وهو ما يغيّر من صحة النتائج بنسبة تصل إلى 50%. أي أنهم فعلوا هذه الحركة الصغيرة القذرة فقط ليحصلوا على نتائج أكبر ويقولوا للجميع: انتبهوا أعمالكم البحثية غير صحيحة بسبب ما اكتشفناه!

هذا جانب وهناك جانب آخر متعلق بالنشر الأكاديمي: المجلة التي كنّا نريد النشر فيها كانت IEEE Access وهي مجلة وصول مفتوح (Open-Access) أي أنها تتيح لكل القرّاء الوصول للبحث بالمجان، لكن يتوجب على الباحثين الذين كتبوا الورقة البحثية تحمّل تكلفة ضخمة مقابل النشر (نحو 1800$ في حالتنا).

كنتُ أظن أن هذا المبلغ يذهب للمجلة ويُدفع للمراجعين والمدققين وهذه التكاليف؟ لكنني اكتشفت أن المراجعين والمدققين لا يحصلون على أي قرش؛ بل يقومون بالأمر بالمجان تمامًا. من يحصل على هذا المال هو المؤسسة الناشرة أو دار النشر، وليس العاملون في المجلة أنفسهم.

أي أن الناشر حرفيًا لا يحرّك مؤخرته لعمل شيء، ومع ذلك يحصل على كامل المبلغ بينما الباحثون الذين يتعبون أنفسهم لا يحصلون على قرش.

بالتالي هناك مشكلة في النشر العلمي؛ إما أن تنشر بالمجان ولكن سيتوجب على القرّاء أن يدفعوا نحو 30-100$ للوصول إلى بحثك، وإما أن تدفع أنت آلاف الدولارات لنشر بحثك بالمجان. هذا يعني أن النشر الأكاديمي منحصر في نخبة قليلة جدًا تمتلك هذه الموارد.

2. المعايير هي من تضبط الحقائق

السيارات لا تُصنع من الهواء، ولا يمكن لأي سيارة ببساطة أن تسير على الطرقات، بل هناك معايير. هذه المعايير تفرضها الدول على الشركات المصنّعة للسيارات (أو على الأقل تتشارك بصياغتها معها)، والسيارات التي لا تتبع المعايير قد تُمنع من السير على طرقات الدول.

بالتالي عندما تتحدث عن الشبكات المركبية (Vehicular Networks)، فما هذه الشبكات؟ وكيف تعمل؟ وكيف تدير الاتصالات والأجهزة والتردد والشهادات والاستيثاق… إلخ؟ من أين نجد الجواب على كل هذه الأسئلة؟

نجدها في المعايير الرسمية المنشورة لهيئات تنظيم الاتصالات في أوروبا وأمريكا وغيرها من الدول والقارّات. في أوروبا هناك هيئة اسمها ETSI متخصصة في عمل هذه المعايير ونشرها، وفي أمريكا هناك SAE. تنشر هذه الهيئات عشرات المعايير كل عام وتعمل على تحديثها لتواكب العصر وتحديّاته، وبالتالي إن أردت أن تفهم المجال فلا بد أن تقرأ هذه المعايير وتفهمها بالكامل.

للأسف كثير من الأوراق البحثية التي قرأتها تُنشر رغم أنها لا تشير لهذه المعايير إطلاقًا، وتتعامل وكأنها غير موجودة. وبالتالي عند النشر الأكاديمي سيكون من السهل جدًا أن تُبرز خطأ وضعف الآخرين عبر محاكمتهم إلى هذه المعايير.

ما فائدة طريقتك لحماية الخصوصية إن كان لا يمكنني تطبيقها في أي مكانٍ في العالم؟

3. تسجيل براءات الاختراع

طريقتنا لحماية الخصوصية كانت فريدة من نوعها ولهذا أرسلناها للتسجيل كبراءة اختراع في تركيا، ما تزال قيد المراجعة.

إجراءات تسجيل براءات الاختراع تختلف من دولة لدولة، في الاتحاد الأوروبي الإجراءات موحّدة لكن عليك دفع أكثر من 2000 يورو مبدئيًا، وفي الولايات المتحدة نحو 3000 دولار أو ما شابه ذلك. كل هذا فقط للتسجيل المبدئي.

بعدها، هناك تكاليف سنوية عليك دفعها مقابل الاحتفاظ ببراءة الاختراع. فكرة براءة الاختراع هي منع الآخرين من تسجيلها قبلك بحيث إن استخدمها أحدٌ ما في الاستخدام التجاري فسيضطر للحصول على رخصة منك مقابل مبلغ من المال، وبالتالي الدول تفرض أيضًا عليك تكاليف سنوية للاحتفاظ ببراءة الاختراع هذه، وبما أنه هناك تكاليف سنوية فسيكون من غير المنطقي الاحتفاظ ببراءة اختراع لم يستعملها أحد أو لم يطلبها أحد للاستخدام التجاري.

ولهذا غالبًا ما يفعله الناس هو أنهم يسجلون براءة الاختراع لسنة وسنتين وثلاثة… وإن لم يجدوا مهتمين فيها، يتركونها للاستخدام العام.

هناك مكاتب تجارية جاهزة لتسجيل براءات الاختراع، أي أنك لا تتعامل مع الدولة مباشرةً بل مع وسيط يقوم هو بالأتعاب عنك مقابل مبلغ إضافي من المال. التعامل معهم أفضل فكل ما عليك فعله هو ملأ النماذج المطلوبة وشرح براءة اختراعك، ثم هم يقومون بالباقي ويسجلونها لك ويتابعون الإجراءات القانونية.

صحيحٌ أننا سجّلنا براءة الاختراع في تركيا وليس في أوروبا أو أمريكا، لكن لهذا الأمر ميزة:

  • لا يمكن لأي شخص في أمريكا وأوروبا تسجيل براءة الاختراع الخاصة بنا إن كانت مسجلة في تركيا. نعم يمكنهم استعمالها للاستخدام التجاري دون الحاجة لترخيص من عندنا (لأنها غير مسجلة في أوروبا وأمريكا)، لكن لا يمكنهم تسجيلها هم بأنفسهم. فائدة هذا الأمر هو أننا ندفع تكاليف منخفضة جدًا مقارنةً بأمريكا وأوروبا مع الاحتفاظ ببراءة الاختراع.
  • إن اكتشفنا أنه هناك شركة سيارات مثلًا تستعمل الخوارزمية الخاصة بنا، فيمكننا وقتها مباشرةً تسجيلها في أوروبا وأمريكا وإجبارهم على الدفع لنا. وقتها سيكون من المسموح لنا قانونيًا التحجج ببراءة الاختراع التي سجلناها في تركيا لإجبارهم على الدفع.

بالتالي يكون من الجيد الاكتفاء بتسجيلها في تركيا مؤقتًا إلى أن نكتشف هل هناك مهتمون أم لا.

4. الأدوات والتقنيات

كتبتُ أطروحة الماجستير عبر برنامج ليبر أوفيس، بينما كانت الورقة البحثية عبر LaTeX.

للورقة البحثية استخدمنا منصة OverLeaf، وهي منصة إلكترونية تشاركية تسمح بكتابة الأوراق البحثية من أكثر من شخص في نفس الوقت، وهو ما يسهّل العملية. تدعم LaTeX بالكامل وكل الحزم التي تريدها، وتُنشى لك ملف الـPDF مباشرة وأنت تحرر:

أبرز الأدوات التي ساعدتني في إدارة المراجع كان Zotero، وهو برنامج مجاني ومفتوح المصدر يسمح لك بسهولة بإضافة أي صفحة أو ورقة بحثية كمرجع يمكنك الإشارة إليه لاحقًا أو تصديره بأي صيغة تريدها:

لكن أكثر ما أتعبني في التعامل كان برنامج ليبر أوفيس:

  • امتداد Zotero لبرنامج ليبر أوفيس يحتاج الجافا، وقد صرفتُ ساعات من وقتي لجعلها تعمل داخل البرنامج، فرغم أنه لدي جميع إصدارات جافا المطلوبة على جهازي إلا أن ليبر أوفيس ببساطة كان يخبرني أنه لا يوجد لديك جافا، ولا يسمح لي باختيار مسارها يدويًا. اكتشفتُ في النهاية أنني بحاجة لحزمة اسمها liblibreoffice-java.
  • وفي النهاية لم أتمكن من استخدامه؛ لأن الإضافة تضيف ترقيم المراجع كـSuperscript وأنا لا أريد هذا، بل أريد أرقام بالحجم العادي مثل [1] أو [2]. احتجتُ كتابة المراجع والإشارة إليها يدويًا.
  • برنامج ليبر أوفيس ضعيف جدًا فيما يتعلق بترقيم الصفحات ترقيماتٍ مختلفة على حسب القسم؛ فأنا لا أريد ترقيمًا واحدًا لكل الصفحات بل ترقيمات مختلفة. للأسف البرنامج به علل ومشاكل تجعلك تشدّ شعرك عند التعامل معه بخصوص هذا.
  • البرنامج يحفظ المستند بشكل معين أنت تراه، ثم عندما تغلق المستند وتفتحه من جديد ترى شكلًا آخر وتنسيقًا مختلفًا!
  • ترقيم الصور في البرنامج لا يدعم أن تكتب تحت الصور نصًا مثل “Figure 3.2. Sample Text”، بل يجبرك على وضع الرقم قبل كلمة “Figure” وهذا لا أريده. اضطررتُ إلى عملها يدويًا لكامل المستند.
  • إنشاء رسوم بيانية في ليبر أوفيس مشكلة من نوع NP-Complete؛ اضطررتُ إلى تثبيت مايكروسوفت أوفيس عبر PlayOnLinux فقط لإنشاء الرسوم البيانية (Graphs) ثم نسخها ولصقها في ليبر أوفيس كصور عادية.
  • ميزة المراجعة (Review) ضعيفة في ليبر أوفيس؛ أرسلنا المستند إلى أحد المشرفين الآخرين للمراجعة والتدقيق فلم يتمكن البرنامج من عرض رسائل المراجعة والتغييرات بشكلٍ جيد، ولهذا اضطررت إلى استخدام OnlyOffice لعرضها.

بالنسبة لبرمجة نظام المحاكاة فقد برمجتُه بنفسي عبر بايثون OOP؛ أكثر من 5000 آلاف سطر برمجي لمحاكاة شبكات السيارات ونموذج المهاجمة بالإضافة لطُرق الحماية المستعملة. استخدمتُ محرر PyCharm للبرمجة وقد كان جيدًا عمومًا، ولديهم اشتراك مجاني في النسخة الاحترافية للطلاب لمدة سنة. لكنني لم أتمكن من استخدام ميزة الـDebugging؛ الشفرة البرمجية لديّ غير مهيّأة للأداء والمنقّح لم يفتح أبدًا ولم أتمكن من استخدامه مع الشفرة البرمجية، خصوصًا أن معالج حاسوبي قديم من 2017م (Ryzen 1600).

5. التعامل مع المشرف

مشرفي إنسان طيب وخلوق لكنه مشغول معظم الوقت. الرجل يدير ميزانية بحث بأكثر من 100 مليون دولار من الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالشبكات المركبية، ولديه مختبر أبحاث خاص يديره هو (تابع له وليس للجامعة)، وبالتالي وقته ضيّق جدًا.

لم أكن أعلم هذا عندما قدمتُ إليه ليشرف على بحثي، وقد كان بحثي جاهزًا منذ أشهرٍ طويلة إلا أننا ظللنا نمشي ببطء إلى وقت التخرج بسبب انشغاله.

قد يكون هذا أمرًا مهمًا لك؛ المشرفون الأكثر خبرة في المجال غالبًا هم الأكثر انشغالًا وستتعلم الكثير جدًا منهم، لكن ستمشي ببطء إلى أن تتمكن من التخرّج على عكس المتفرغين أكثر الذين هم بخبرة عملية أقل.

خاتمة

كانت هذه بعضًا من تجاربي في برنامج الدراسات العليا، وهناك الكثير مما تعلمتُه أيضًا.

بشكلٍ عام كانت تجربة جيدة تجعل الإنسان يحتك أكثر بالعلم، وأنصح بها لأي شخص يريد أن يتخصص في الدراسات الأكاديمية والنشر والبحث العلمي، فلا غنىً عنها. لكن إن كان طموحك هو سوق العمل فربما قد تكون هذه المواضيع آخر ما تحتك به فيه؛ لأن سوق العمل يتطلب خبرة عملية وممارسة تطبيقية وليس أمور نظرية أكاديمية وأوراق بحثية، وكونك خرّيج ماجستير لن يرفع مقامك كثيرًا في السوق.

ارتحتُ ولله الحمد من أمرٍ كان يأخذ الكثير من حياتي، ولعلي أبدأ رحلتي المقبلة قريبًا وأركّز على مشاريعي الماضية أكثر.